بوابة المالكية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة عند الأب الشاعر يوسف سعيد 1

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة عند الأب الشاعر يوسف سعيد 1 Empty رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة عند الأب الشاعر يوسف سعيد 1

مُساهمة من طرف صبري يوسف الأحد ديسمبر 23, 2007 12:15 pm

رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة
عند الشَّاعر الأب يوسف سعيد

1 ـ 4


بقلم: صبري يوسف

أخَذَتْ قصيدة الطُّفولة من ديوان (السَّفر داخل المنافي البعيدة) للشاعر الأب يوسف سعيد*، وقتاً مطوَّلاً منّي، وكلَّما كنتُ أقرأها كنتُ أجد شيئاً جديداً، وما وجدتُ نفسي إلا وأنا غائصٌ في عالم هذا الشَّاعر المتدفِّق شعراً، مستمِّداً رحيق أشعاره من عالم الطُّفولة الرَّحب تارةً، ومن عالم الحياة تارةً أخرى. أيُّ عالم شفَّاف هذا الّذي يغرف منه الشَّاعر توهُّجات شعره المتلألئ في الذَّاكرة البعيدة!
قصيدة الطُّفولة هي أشبه ما تكون بترتيلة الحياة، حياة الشَّاعر نفسه، إنّه يرغب عبر نصّه الشِّعري العودة إلى نقاء الطُّفولة، إلى الماضي الحميم، رغبةً منه في تجسيد هذا العالم المكتنـز بالصَّفاء ونزوعه إلى الحرّية، رغم قساوة الحياة الّتي عاشها! .. ومن خلال دراستي وتحليلي لهذه القصيدة، تبيّنَ لي أنَّ الشَّاعر أسقط بين ثنايا نصّه دلالات فكريّة وحياتيّة واجتماعيّة ورؤاه الكثيفة في الحياة وموقفه منها دون أيِّ تحفُّظٍ وكأنّه يتلو في حالة انتشاء ترتيلته المفضّلة من أخصب وأنقى محطّات عمره، حيث يبدو واضحاً أن الشَّاعر كتب قصيدته بكلِّ مشاعره وأحاسيسه وأحلامه ودمه وأعصابه، فهذه القصيدة هي أنشودته الروحانيّة الشَّفَّافة، والّتي انبثققَت من نقاط دمه، حيث يقول:
" أتركُ نقاط دمي على جوانب محبرة،
بعض هذه النِّقاط انساب كدهنٍ مهراق، ....
أشيِّدُ أعشاشاً لطيورٍ مصنوعة من دم الكلمات" ..

وهناك أمثلة كثيرة تشير إلى أنَّ الشَّاعر ملتحم بكلّ مشاعره وأعصابه ودمه مع بناء القصيدة، فيعلنها صراحةً ويقول:
" هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر، ..."

طرح الشَّاعر موضوع الحرّية، ويبدو أن الشَّاعر يتوق توقاً عميقاً إلى الحرّية والتَّسامي والارتقاء والتَّأمُّل، وهذه الخصائل تشتركُ مع بعضها في مسألة صفاء الرُّوح ونبلها وسموِّها، حيث يقول:
"نفسي وهي في انتعاشتها المتسامية تحتسي شوقاً من مياه ينابيعها".
" جدائل ليلي قرب ساقية تروي شجرة التَّأمُّل" ..
" نسوةٌ قرب سريري يحدثنني عن هلاكي المؤجّل،
بينما أراقبُ كوكباً كبيراً، متمنِّياً الارتقاء إلى دياره،
هل في أحواضه السَّماويّة زنابق من نوع ٍآخر؟!" ..

هناك توق شديد لدى الشَّاعر للارتقاء والسُّموّ نحو أحضانِ السَّماء، وقد تلوَّنت شفافية روحه بهذا النزوع نحو عالم السُّموّ والارتقاء، ربّما لكونه أبّاً روحيَّاً، عمل أكثر من نصف قرن من الزَّمن في عالم الكهنوت وما يزال (يمارس طقوسه الكهنوتيّة رغم تقاعده عن العمل)، جنباً إلى جنب مع عالم الشِّعر، المتعطِّش إلى سماء القصيدة، سماء الرًّوح، سماء الإبداع، سماء الأب يوسف سعيد، وسماؤه لها نكهة خاصّة، نراها مطرّزة برحيق الكلمة، المتطايرة من تعاريج الحلم!.. مستمدّاً من رحاب رؤاه الحلميّة بناءً مختمراً في ذاكرة الشَّاعر التواّقة إلى مزج الواقع بالحلم والخيال فتأتي القصيدة متفرٍِّدة في بنائها وأسلوبها، حيث يقول:
" انّي أستيقظُ في ظهيرة النَّخيل،
أبحث عن مدنٍ متعرِّجة القلب، ...
انّي أحلم برائعِ نسكي،
وتصوُّفي أرجوزة خالدة" ..

" يوميّاً دجلة مع سرادقهِ البيضاء ينام في سفوحي" ..
"أحلم أن أنام على عتبات من مصاطب المرمر" ..
" كنتُ وحيداً مع أحلامي " ..

إنَّ ما يميِّز أسلوب الأب يوسف سعيد عن غيره من الشُّعراء هو عفويته في الكتابة ودمج نزوعه الصُّوفي الشَّفّاف مع رؤاه السُّورياليّة النابعة من تراكمات الحالات الحلميّة، ورؤاه المستمدّة من تجربته الحياتية الفسيحة في عالم الكلمة، حيث يقول:
" يخرج حلم المجدليّة من أحلامي" ..
"..ترشقني سهام الأحلام" ..
"وحدها الفراشات تستريح على أجنحة البرق" ..

هذه الصُّورة الشِّعريّة تحمل بُعداً عفويّاً مجنّحاً في عالم الإبداع! .. مع العلم أنّ الفراشات لا يمكن أن تستريح على أجنحةِ البرق، ولكن طالما ارتأى الشَّاعر أن يقول ذلك، فما علينا إلا أن نسمعَ إليه، دونما أن نناقشه في كيفيّة بناء هذه الصُّورة الغرائبيّة، لئلا نجرح أحاسيس (فراشات) الشَّاعر، لأنّه كما أنَّ للشاعر حساسيّة أدبيّة من نوع خاصّ، كذلك لفراشاته استراحات من نوعٍ خاصّ!
.. هناك حضور قوي للمرأة في قصيدته، مؤكّداً على أهميّة المرأة في حياة الإنسان من جهة، وإلى حاجة الإنسان للمرأة عبر العصور من جهةٍ أخرى!.. وقد طرحها عبر تساؤلات:
" هل ستأتي امرأة الحيّ إلى ديارنا؟
وهل في سلّةِ أحلامها عناقيد من عنب أو تفّاح أخضر؟
هل سترقص قرب سرير من الجوز؟" ..

وللشاعر موقف جليل تجاه الشُّعراء ويعتبرهم حكماء هذا العالم:
" .. ايُّها الشُّعراء أنتم حكماء العالم" ..
" مَنْ يقتلُ شعراءنا، يحذفُ مليون حكمة من دفاتر الشَّرائع" ..

ويعتبر الشَّاعر أنّ الشِّعر هو بمثابة روح الحياة، حيث يشبِّه العالم بإنسان، وهذا الإنسان (أعصابه من دماء الشِّعر).. إنّ حبَّ الأب يوسف سعيد للشعر والشُّعراء، جعله أن يضع الشَّاعر في مصافّ الحكماء والمشرِّعين، واعتبر الشِّعر عصب الحياة في هذا العالم:
"أعلنها صراحةً: هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر" ..
ونستشفّ من هذه الأمثلة أنَّ الشَّاعر لديه موقف تجاه نفسه كشاعر واتجاه الحياة كوجود، وموقفه تجاه نفسه هو أن يكون حكيماً يحمل بين جناحيه رحيق الشَّريعة والحكمة ليقدِّمها للحياة والوجود، وهناك نزوع ورغبة داخليّة في أعماق الشَّاعر للالتحام في الحياة، في هذا العالم الّذي يعيشه.
حملت قصيدة الطُّفولة بين ثناياها هموم الغربة وهموم الحياة، وهذه الهموم هي اِمتدادات لعذابات الطُّفولة وتشرُّدها، حيث عاش الشَّاعر طفولةً قاسية، ذاق خلالها مرارات التشرُّدِ والفقر، لكنّه مع كلّ هذا حافظ على نقاوته منذ الطُّفولة:
" لا شيء في حياة هذه الطُّفولة،
سوى ممارسة التشرُّد،
ماشياً بلا زوجين من الأحذية،
ومن فرط الانشقاقات في قميصي،
الشَّمس تغزو جسدي .." ..

إلا أنَّ الشَّاعر (الطُّفل) ما كان يهتمُّ بمسألة الفقر وما كانت الانشقاقات في قميصه تشكِّلُ له مشكلةً حتّى ولو غزَت الشَّمس جسده .. لقد كان يوسف سعيد (الطُّفل) كما يرسمه الشَّاعر، يحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن ولكنَّه كان أكثر سعادةً منهم (أي من الأغنياء)، لأنّه كان يستمدُّ سعادته من حرّيته وتجواله في غابات المدينة ويصوِّر لنا الشَّاعر هذه المواقف بوضوح في قصيدته حيث يقول:
" الموصل العذراء تعرف جيّداً كم كنتُ أعاني الفقر.
مراراً مارستُ طقوسه في سبوتي اليتيمة،
أمخرُ في عباب مياهِ الكنائس،
ومع هذا كنت أحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن،
لكنّني في تشرُّدي كنتُ أكثر سعادةً منهم،
كنتُ حرّاً في الظَّهيرة المحرقة،
أسوح في غابات المدينة" ..

إنَّ يوسف سعيد (الطّفل)، يحمل خصائص يوسف سعيد الشَّاعر، ويبدو من خلال تصوير الشَّاعر لطفولته، أنّه كان ينـزع نزوعاً عميقاً نحو الحرّية وهو طفل، وكان يحبُّ السُّموّ فوق المادّيات، مفضِّلاً مشاهدة الطُّيور في الحديقة عن لذائذ الطَّعام وكلّ هذا يشير إلى أنّ نفسيّة يوسف سعيد (الطّفل) كانت راقية وسامية بالرَّغم من الفقر الذّي كان يعانيه، وهذه إحدى الدَّلالات الّتي تشير إلى أنَّ الشَّاعر ما كان يهتم بمادّيات الحياة منذ نعومة أظفاره، وتبدو لنا مواقفه مجسّدة من خلال المقطع التَّالي:
" .. ربّما تلك القيلولة عادة مكتسبة في الظَّهيرة،
تناول الأغنياء غذاءهم الدَّسم من مقاصفهم.
أغزو موائدهم ببراثن جوعي،
أحياناً أنظر خلسةً،
آكلُّ سريعاً من مقاصفهم،
أتناول فتاتهم فقط، ثمَّ أهرع إلى برّية المدينة،
راكضاً وملاحقاً أسراب القبّرات وأعودُ أدراجي،
وقد نسيتُ لذائذ تلك المناسف،
مراقباً الطُّيور في الحديقة الوحيدة .." ..

إنَّ تفضيل يوسف سعيد (الطّفل)، مراقبة الطُّيور، عن لذائذ الطَّعام ينمّ عن وجود خصوصيّة مزاجيّة تقترب إلى عالم فضاءات الشِّعر والحرّية. ولو اهتمَّ منذ الطُّفولة بالمادّيات، لأصبحت هذه الاهتمامات في مقتبل الأيام على حساب حساسيته الشِّعريّة، ولكنّه لم ينجرف إلى عالم المادّيات رغم قساوة طفولته، لهذا حافظ على نقاوة ذاته الشِّعريّة، ويبدو لي أنّ يوسف سعيد (الطّفل)، كان في داخله شاعراً، وذلك من خلال سلوكه وتوقه إلى عالم الطُّيور والبراري الفسيحة، تاركاً خلفه لذائذ الطَّعام ومادّيات الحياة، مركِّزاً ومستمتعاً بمباهج الطَّبيعة. وعندما شبَّ الشَّاعر عن الطَّوق، وبدأ يمارس رسالته الكهنوتيّة، نراه يمارس (نزوعه الطُّفولي النقيّ)، حيث لم يجده أحد طوال رسالته الكهنوتيّة الّتي امتدّت أكثر من نصف قرن، أن قَبِلَ عرضاً ماليَّاً خلال قيامه بأعمال أكاليل الزَّفاف، والعماد ومراسيم التَّأبين والدَّفن والقائمة طويلة في المهمّات المترتِّبة عليه، على عكس رجالات الدِّين الآخرين، الّذين ما كانوا يتوانون دقيقة واحدة عن استلام الهبات الّتي كانت تُقدَّم إليهم، بل غالباً ما كانوا يبدون امتعاضهم لو كانت الهبة المقدّمة إليهم قليلة، لا يضعون بالإعتبار فقر الآخرين أو ظروفهم القاسية، لهذا نرى أنّ الأب يوسف سعيد حالة استثنائية نادرة في عالم اليوم!..حيث تحوَّلت العلاقات إلى عالم مادّي بغيض، إلا أنَّ الأب الشَّاعر كان بمنأى عن هذا العالم، ترك لذائذ الطَّعام منذ الطُّفولة، واتّخذ من القلم رايةً له غير مبالٍ بمادّيات هذا العالم على الإطلاق!
هل نجح في حمل القلم؟
نعم، نجحَ إلى حدٍّ بعيد!.. لم ينقطع الأب يوسف سعيد عن الكتابة منذ أن مارسها حتّى الآن، وهو في خريف العمر، يجد في الكتابة متعةً لا تضاهيها متعة على الإطلاق. وعندما يكتب نصّاً جديداً تراه يتّصل مع أصدقائه الشُّعراء ويقرأ لهم نصّه عبر الهاتف بفرحٍ عميق. كلّ هذا يدلّ بوضوح على نجاحه واستمتاعه في حمْلِ القلم.
أصدر عام 1958 مسرحيّة بعنوان المجزرة الأولى، ثم غاص في عالم الشِّعر، يغترف منه دون كللٍ أو ملل. وأصدر ديوانه الأوّل الموت واللُّغة عام 1968. يقول الأب يوسف سعيد في مقدِّمة الدِّيوان:
" إنّ لمجموعة الموت واللُّغة قصّة، كانت تربطنا بالمرحوم رئيف الخوري، الأديب الفذّ، صداقة عميقة. وكان رئيف إنساناً، حيَّاً في إنسانيَّته، عظيماً في تعبيره، ذا رسوخ في الأدب .. فجأةً غيَّبه الموت، وكأنَّني بموته وجدتُ أشياء جديدة في عالم الموت. وعشتُ في دوَّامة أربعين يوماً وأربعين ليلةً، أكتبُ ما يعصره المجهول عليّ. وولدَت هذه المجموعة، تجربة تحاول أن تتجاوز الموت باللُّغة!
تراني وقفتُ أمام الجدار أم اخترقته؟! " ...

هكذا يمرُّ الشَّاعر بإحدى رحلاته الشِّعريّة، معتكفاً أربعين يوماً وأربعين ليلةً، يكتب عن الموت، موت صديقه، موت الإنسان، محاولاً على حدّ قوله تجاوز الموت باللُّغة! .. فهل يستطيع الإنسان فعلاً أن يتجاوز الموت عبر اللغة؟! .. ربّما تمنح اللغة الكاتب، فضاءات جديدة، تنسيه ألم الفراق، تمنحه السَّلوى وتضمد جراحه، إلا أن الإنسان في النّهاية لا يستطيع تجاوز الموت لا باللغة ولا بأي وسيلة أخرى، لأنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة الّتي لا بدّ للبشر من عبورها، ولكن محاولة الأب يوسف سعيد في تجاوز الموت عبر اللغة، هو نوع من رفض العقل الباطني لموت الأصدقاء والأقرباء، موت إنسان عزيز!..لأن عقل الإنسان لا يتقبَّل الموت بشكلٍ عقلي، ولا يتقبّل الإنسان بسهولة فكرة الموت، لهذا يهرب منها أحياناً (من فكرة الموت)، ويواجهها أحياناً أخرى كما في حالة الأب يوسف سعيد، حيث نجده عبر ديوانه يواجه الموت باللُّغة، إلا أن هذه المواجهة ليسَت أكثر من تفريغ حالات حزنيّة وانفعاليّة، وفاءً منه لصديقه، وهو يعلم في قرارة نفسه أنّ الموت لا يمكن مواجهته ولا يمكن تجاوزه، ولكن الإنسان لا يبقى مكتوف الأيدي أمام صدمة موت الأعزَّاء، فهناك مَنْ يبكي بكاءً مرّاً، وهناك من يصمت صمت الموتى، ومَن يرتِّل ترتيلة الفراق والمبدع له المساحة الأكبر في تلقّيه الصَّدمة، نظراً لحساسيّته المرهفة تجاه الموت أو أي حدثٍ في الحياة! فنرى الأب يوسف سعيد يقول في قصيدة قبض الرِّيح:
"الرَّوضةُ تغنّي!
المنقار الورديُّ انفصل عن حساسية البلبل
لأنَّ قفص الفلاسفة سجنٌ غائر
آهٍ! .. أقدام الرَّابية تخور." ..

يشبّه الشَّاعر الإنسان كجزء من الطَّبيعة، فقد اعتبر أن موت صديقه أشبه ما يكون بأقدام رابية تخور! .. لقد كان الشَّاعر مصيباً عندما اعتبر الإنسان جزءاً من الطَّبيعة، ولكن كيف شبّه الموت بأقدام رابية تخور، فهذا ما يراه الشَّاعر! وفي قصيدة الموت واللغة، الّتي حملَت عنوان الديوان يقول:
" ... أنا جزءٌ من الموت
في سطح لساني عرقٌ أخضر
ينـزُّ على بوّابة مخّي،
لغةَ الإشارة والضّحك والنَّحيب والرُّموز
أَكنتُ ذات يومٍ إلهاً؟ قذىً؟ صخرةً؟!
بلى كنتُ تراباً
أدثِّرُ رأسي بالموت واللُّغة
ننشد في هيكل الكلس
تتمطّى اللُّغة في مركبات القواميس
الشّفرة الغامضة غامضة! " ..

يتساءل الشَّاعر أسئلة عديدة ويجيب عن أسئلته بتكثيف واضح،
" كنتُ تراباً
أدثِّرُ رأسي بالموت واللُّغة"
ثمَّ ينهي القصيدة بغموض، وكأنّه يريد أن يقول بقدر ما هو الموتُ واضح بقدر ماهو غامض أيضاً! وفي قصيدة استسلام، يقول الشَّاعر:
" سيَّجَ الموتُ أصابعي
انفصلَت الرُّوح عن الصدأ
مَنْ يلمسُ الموت؟ ...
حكمتي أن أرقدَ، أنامَ، أنسى القيامة الميلاد
أبيع في سوق النَّخاسة ذكراي وصداي وقميصي..
عشيرتي تبكي ...
هل في أفريقيا فردوس؟!! " ..

من خلال هذه القصيدة يتبيّنُ لنا أنَّ الشَّاعر لا يكترث للحياة كثيراً فهي فانية، نهايتها الموت، والموت قريبٌ من الإنسان في كلِّ لحظةٍ، وحكمة الشَّاعر بحسب منظوره هي أن يرقد، ينام، ينسى القيامة، الميلاد، أن يبيع ذكراه وصداه وقميصه في سوقِ النَّخاسة! .. انّه يستسلم للموتِ، معتبراً هذا الإستسلام حكمة. ولكن عشيرته ستبكي أثناء موته، متسائلاً في إقفال القصيدة:
"هل في أفريقيا فردوس؟!!" هو يعرف أنَّ لا فردوس في أفريقيا ولا في أيّ قارّة من قارّات العالم، لأنّ الموت هو نهاية النّهايات، هو مصبّ الإنسان!
وفي قصيدة الخلاص، يتساءل الشَّاعر:
" أنموتُ؟
لا أنتَ ولا أنا نموتُ
مخُّ الموتِ تحوَّل إلى الصَّدأ
إلى غبار كبريت
الفاجعة أنَّ الموت مات .. مات
مَنْ يشتري العفونة من تابوت قيصر؟
مَنْ يشتري الحياة؟!! " ..

لا يعتبر الشَّاعر موت الإنسان موتاً، بل يعتبر الموت مات وشبع موتاً، متسائلاً: "مَنْ يشتري العفونة من تابوت قيصر؟ مَنْ يشتري الحياة؟"، ربَّما يقصد الشَّاعر بالعفونة أنَّ جسد الإنسان، جسدٌ فانٍ وكذلك الحياة فانية هي الأخرى! .. وقد ترك لنا بين السُّطور أنَّ الرُّوح حيّة باقية لا تموت، من خلال قوله:" لا أنتَ ولا أنا نموت .." حيث نراه يقول في ختام قصيدة حصاد التَّجربة:
" امسحوا بمنديل العذارى عينيَّ الشَّاعر الّذي ينشد للأبديّة " ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
..............................................يتبع!

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com
www.sabriyousef.com

نقلاً عن موقع جهة الشعر


http://www.jehat.com/Jehaat/ar/JanatAltaaweel/maqalatNaqadeya/yousif_saeed.htm

صبري يوسف

ذكر
عدد الرسائل : 56
تاريخ التسجيل : 31/10/2007

http://www.sabriyousef.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة عند الأب الشاعر يوسف سعيد 1 Empty رد: رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة عند الأب الشاعر يوسف سعيد 1

مُساهمة من طرف شكري عبد الأحد الخميس يناير 17, 2008 3:31 am


أشكرك اخ صبري مع فائق أحترامي وتقديري لكل كلمات الجميلة
شكري عبد الأحد
شكري عبد الأحد

ذكر
عدد الرسائل : 222
العمر : 45
تاريخ التسجيل : 29/09/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى