(الممالك والقبائل الارامية في الجزيرة السورية )
صفحة 1 من اصل 1
(الممالك والقبائل الارامية في الجزيرة السورية )
يثير موضوع الآراميين الكثير من الأسئلة، فهم شعب مثير للجدل. ويعود ذلك في اعتقادنا إلى كثرة اختلاف الروايات المتناقلة عنهم، هذا الاختلاف الذي يصل إلى حد التناقض حتى في المصدر الواحد.
كما يعود السبب في كثرة الجدل حول الآراميين، وغياب أجوبة واضحة قاطعة جازمة حول الكثير من أوضاعهم، إلى تدمير الأرشيفات السورية التي توضح التاريخ السياسي لعصر البرونز المتأخر، وذلك نتيجة للكارثة التي ضربت بعض المناطق السورية وأصابت عدداً من مراكز المدن في مطلع القرن الثاني عشر ق.م. الأمر الذي أدى إلى عدم وجود شواهد مكتوبة عن القرنين الأخيرين من الألفية الثانية ق.م. ولهذا سميت هذه الفترة بالعصر المظلم.
وقبل الدخول في التفاصيل عن أصل الآراميين والمناطق التي عاشوا فيها ومختلف أوجه حياتهم، نتساءل ما معنى كلمة آرام ومن أين جاءت هذه التسمية، أي لماذا سمي الآراميون بهذا الاسم بالذات دون غيره من الأسماء؟
ثمة من يقول: الآراميون هم أحفاد سام بن نوح. الآراميون مجموعة من الشعوب التي أطلق عليها مصطلح الشعوب السامية، استناداً إلى ما جاء في سفر التكوين ، واعتباراً من أن هذه الشعوب منحدرة من سام بن نوح، وآرام أحد أبناء سام، وإليه نسبت إحدى القبائل الآرامية المتعددة. ثم تغلبت هذه التسمية على تسمية القبائل الآرامية الأخرى.
وهناك قول آخر: تسمية آرام تسمية جغرافية والمقصود بها الأراضي المرتفعة في المناطق الجبلية الشمالية. وإن مصطلح "آرام نهريم" يقصد به الأقسام الشمالية من نهري دجلة والفرات وبالتحديد نهر الفرات وفي المنطقة الواقعة بين منبع البليخ وحتى الفرات، وعرفت بمنطقة ما بين النهرين ومركزها حران جنوبي الأناضول. وأطلقت عليها تسمية ميسوبوتاميا Mesopotamia من قبل الإغريق، وكان المؤرخ اليوناني بوليبوس "202 ـ 120 ق.م" هو من أطلق هذه التسمية على ما بين النهرين.
وأطلق الآشوريون تسمية أرومو و آرامو على بلاد آرام وسكانها، حيث عرف اسم آرام منذ عهد الملك الأكادي نارام سين "2250 ق.م " كما يقول موسكاتي في كتابه "الحضارة القديمة".
وإذا كان عبد الهادي نصري يبتعد في كتابه "شمس آرام شمس العرب" عن ذكر المفهوم السامي ويستبدله بمصطلح العرب القدماء.
فإن المطران اسحق ساكا يورد عدة روايات حول نسب آرام فهو في إحدى الروايات الابن الخامس لسام بن نوح، وفي رواية أخرى هو ابن قموئيل بن ناحور وناحور أخ ابراهيم الخليل عليه السلام. وفي رواية ثالثة هو من نسل أشير الجد الأعلى لقبيلة أشير.
ويسترسل المطران ساكا قائلاً: إن ضبط لفظ آرام وكتابة هذا الاسم تتم بمد الألف والراء مفتوحتين كما هو ثابت وشائع في اللغات العربية والسريانية والعبرية. ويقول الدكتور أنيس فريحة آرام بمد وآرام بدون مد والأصح بمد. ويميز المطران ساكا بين لفظتي آرام وإرم وبين الآراميين والإرميين. قال ابن العبري : ( إن الآراميين يأنفون من الاختلاط بالإرميين ). ويؤكد أن لفظة آرام لا علاقة لها بإرم ذات العماد، لأن المراد في القرآن الكريم اسم مدينة.
وآرام في التوراة اسم علم وهي لفظة سريانية مشتقة من جذر سامي مشترك "روم " بمعنى المرتفع أو العالي. وقيل إنه يعني الجبل أو الوعر وهو عكس معنى آشور بمعنى السهل. وقال الأب مارتين إن آشور معناها خطوة ومشية، أما آرام فهو لفظ عبراني مشتق من روم أي ارتفع أو " ورم " بالعربية أي انتفخ.
وقد سمي الآراميون كذلك، إما لأنهم سكنوا المرتفعات والجبال على حد قول البعض، رغم أن هذا الأمر غير وارد جغرافياً، وإما لأن الاسم يشير إلى علو المكانة وسمو المنزلة، نظراً للتقدم الحضاري الذي أحرزه الآراميون بانتشار لغتهم، وبالمقابل إن اسم بلاد كنعان تعني الأرض المنخفضة وهي مشتقة بالعبرية من فعل "كنع" أي ركع وانخفض. وهو لفظ ميت في الكلدانية بمعنى خزي، وفي العربية خضع.
وثمة نصوص أخرى يرد فيها اسم الأحلامو ولكن بشكل نادر. وبقي اسم الأحلامو مضافاً إلى اسم الآراميين دون معرفة السبب حتى حوالي القرن الثاني عشر ق.م، لتنحسر تسمية الأحلامو بعد هذا التاريخ، لتحل محلها تسمية "الآراميون".
بعد أن تعرفنا على معنى كلمة آرام، نتساءل من هم الآراميون؟.
والسبب الذي دفعنا لإطلاق هذا السؤال يعود إلى عدم وجود إجابة واضحة ومحددة حول أصل الآراميين وهويتهم. فمن قائل أن الآراميين هم نفسهم قبيلة الأحلامو أو الأخلامو، إلى قائل أن الأحلامو لا علاقة لهم بالآراميين، ولاسيما أن الأحلامو ظهروا إلى الوجود قبل الآراميين. إلى قائل أن الآراميين يمثلون مجموعة من القبائل كالأحلامو أو الأخلامو والخابيرو والسوتو وسواها، إلى قائل أنهم يختلفون عن هذه القبائل، ومنفصلون عنها، حتى ولو اشتركوا مع شعوبها ببعض الخصائص الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية... وهكذا.
وتذكر المصادر المسمارية أخبار الأخلامو، الذين يبدو أنهم كانوا يشكلون القسم الأكبر والأقوى بين القبائل الآرامية في مناطق الفرات الأوسط الممتدة من بلاد سوخي "مناطق عانا" حتى كركميش "جرابلس" في القرن السابع عشر ق. م حيث ورد ذكرهم في رسالة ضمن أرشيف تل الدير ( سيبار أمنانوم ) جنوب غرب بغداد، تعود للنصف الثاني من القرن السابع عشر ق.م، ونقرأ فيها أن بلوشونو يعلم أباه أنه لا يستطيع تحقيق رغبته في شراء شعير له، لأن الأحلامو لم يأتوا إلى المدينة بعد.
وهناك نص آشوري يعود إلى عهد الملك الآشوري أريك دين إيلو "1325ـ 1311 ق.م" يقول فيه أنه خاض معركة ضد قوات الأحلامو والسوتو في منطقة شمالي دجلة.
وقد ترافق ذكر الأحلامو مع الآراميين في نصوص تيجلات بيلاصر الأول "1112ـ 1074 ق.م" الأمر الذي أدى للكثير من الجدل والبحث في العلاقة التي تربط بين الاسمين أو المجموعتين البشريتين. هل هما مجموعتان مختلفتان، أم هما اسمان مختلفان لمجموعة بشرية واحدة؟.
ووجد البعض في اصطلاح أخلامو معنى صديق أو رفيق، بالعودة إلى جذر ( خلم ) في معاجم اللغات السامية ومنها العربية.
وكثيراً ما تذكر الوثائق السوتيين والآراميين و الأحلامو في آن واحد. ففي حين افتخر أريك دين إيلو وسنحاريب بانتصارهما على السوتيين والأحلامو، ذكرت كتابة تعود إلى عصر آشور بل كالا الآراميين والسوتيين والأحلامو معاً.
والخلاصة لدى د.علي أبو عساف أن الآراميين كانوا موجودين كبدو في بلاد الشام منذ القرن الخامس عشر ق.م وإن عبارة الشاصو (البدو) المصرية لابد وأنها كانت تشمل أيضاً الآراميين.
ويقول المطران اسحق ساكا، أن الآراميين برزوا على مسرح التاريخ في الألف الثالث ق.م على شكل قبائل رحالة عديدة.
ولم يكن الآراميون في بادئ أمرهم سوى قبائل رحل تجوب مختلف المناطق سعياً وراء الكلأ وموارد الرزق، حسب رأي المطران صليبا شمعون، حتى إذا ما هب عليهم نسيم الحضارة، الذي جاءهم من وادي الرافدين، أخذوا يزحفون نحو الشمال فوصلوا بلاد الشام واحتلوها. فيما اتجه قسم آخر منهم نحو الشمال الشرقي، ثم تغلغلوا في أعماق سورية حتى وصلت بعض قبائلهم إلى أقصى الشمال، فاستقروا هناك في أعالي ما بين النهرين، وأخذوا يعملون في الزراعة، في حين زحفت قلة منهم إلى مصر عن طريق صحراء سورية وبرية سيناء، وعرفت هناك باسم ( سوتو ) أي الرحل.
كما نزح قسم آخر من قبائلهم إلى بلاد أكد ( جنوبي العراق ) حيث أسسوا لهم دويلات صغيرة مبعثرة هنا وهناك، وصار لهم فيما بعد شأن يذكر في تاريخ تلك المنطقة. كما اتجه قسم آخر من قبائلهم نحو الشمال الشرقي. وقد جاء هذا التوسع الجغرافي نتيجة لفتوحاتهم والغزوات التي شنوها ضد الشعوب التي قطنت البلاد قبلهم كالأموريين والميتانيين والحثيين، وفرضوا سيطرتهم عليهم وأسسوا دويلات صغيرة على أنقاض ممالكهم.
وبناء على ذلك نعود للقول إن طلائع القبائل الآرامية الزاحفة نحو الشام عرفت أولاً باسم (أحلامو) وهي تعني الرفاق. وقد وردت هذه التسمية في رسائل تل العمارنة في القرنين الخامس والرابع عشر ق.م.
ويؤكد دوبون سومر أن نشأة الشعب الآرامي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر ق.م. ويرجع أسد الأشقر الوجود الآرامي إلى فترة أسبق، من خلال إشارات ترد منذ عام 3100 ق.م عن السلالات المصرية الأولى إلى قبائل في بلاد الشام باسم (سيتو).
وعندما هلك آخر أقوام الآراميين وهي عاد وثمود، أصبح اسم الآراميين ( أرمان ) وهي آرام مضافاً إليها ( ان ) في النهاية، وهما حرفا التعريف حسب الجنوب العربي.
وعندما نتساءل من أين جاء الآراميون وأين استقروا؟ تبرز أمامنا عشرات الروايات، وخاصة عن المنطقة التي انطلقوا منها أكثر من المنطقة التي استقروا فيها. فبعض المؤرخين والكتاب يقولون أنهم كانوا يعيشون في شبه الجزيرة العربية، وعندما حصل الجفاف وقلَّ الكلأ والمرعى وتناقصت مصادر العيش في مقابل ازدياد عدد السكان، اضطر الآراميون للهجرة إلى المناطق الخصبة. وحتى موضوع معيشتهم في شبه الجزيرة العربية اختلف عليه المؤرخون. فمنهم من يقول أنهم كانوا يعيشون في جنوب الجزيرة العربية، ومنهم من يقول أنهم كانوا يعيشون في شمالها.
وبالمقابل هناك العديد من المؤرخين والكتاب ينفون وجودهم في شبه الجزيرة العربية كلياً لا شمالاً ولا جنوباً. ويقولون أن موطن الآراميين هو سورية أو بلاد الشام. والبعض منهم ذهب إلى تحديد مكان وجودهم بدقة، وهو بادية بلاد الشام.
وبعد أن يذكر أنه من الصعب تحديد أصل الآراميين وتأريخ بداية نشوئهم، بسبب الغموض الذي اكتنف تاريخهم من جهة، ومن جهة أخرى لندرة الوثائق المتعلقة بهم، يقول دوبون سومر أن السؤالين التاليين يبقيان دون جوابٍ مرض ٍ: في أي عصر قدم الآراميون إلى بلاد الهلال الخصيب؟ ومن أين؟. ورغم أنه يقر بعدم توافر أي وثيقة يمكن اعتمادها للإجابة بدقة عنهما، حتى ولو كانت أسطورة، يرجح سومر أن موطنهم الأصلي في الصحراء السورية.
ويقول عبد الهادي نصري إن البعض يرجح أن موطن الآراميين الأول إلى الخليج العربي أو شمالي الرافدين أو الجزيرة العربية أو بادية بلاد الشام. ويستشهد بما ذكره اسحق ساكا في الجزء الثالث من كتابه السريان إيمان وحضارة، أن المستشرق الايطالي اغناطيوس غويدي يعتبر الجزء الأسفل من الفرات هو المهد الأول للآراميين. وهناك رأي آخر لأديب فرحات يعتبر أن الآراميين هم أسبق بالهجرة من الخليج العربي إلى الساحل السوري، وعندما هاجر الكنعانيون اختلطوا بهم وشكلوا مجموعة جديدة أطلق عليها اسم الفينيقيين.
ونقف هنا عند وجهة نظر أخرى لإسحق ساكا تقول إن معظم سكان الجزء الأسفل من الفرات كانوا من الآراميين. و يرى ساكا أنه من المؤكد أنهم قبل الميلاد بألفي عام كانوا متواجدين في جنوب العراق وادي الرافدين أو سهل شنعار، ودليله على ذلك وجود إبراهيم الخليل في مدينة أور العراقية ومن الثابت أن إبراهيم كان آرامياً.
وهاهو المطران صليبا شمعون يتفق معنا في الرأي أن آراء الباحثين تعددت و مذاهبهم تضاربت في تحديد موطن الآراميين الأم. نظراً إلى ما يكتنف تاريخهم من غموض، بسبب ضآلة المصادر والوثائق التاريخية عنهم. فقد جعل قوم موطن الآراميين شمال أفريقيا وغيرهم آسيا الصغرى.
إلا أن الرأي المعوّل عليه هو أنهم أبناء الجزيرة العربية، وهذا أمر يكاد يجمع عليه ثقات المؤرخين، لكنهم اختلفوا في تحديد المنطقة، أهي جنوب الجزيرة العربية أم شمالها أم رقعة أخرى منها؟. ذلك بأن قوماً يذهبون إلى أن الآراميين جاؤوا من جنوب الجزيرة العربية في إحدى الموجات النازحة منها واستوطنوا المنطقة المعروفة بالهلال الخصيب. وهناك من يقول أن موطنهم الأم هو أصلاً شمال الجزيرة العربية. وقد يكون هذا الرأي أقرب إلى الحقيقة والصواب.
وبناء على ما تقدم يمكن القول إن موطن الآراميين الأم يقع في المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية، أي جنوبي الصحراء السورية المعروفة ببادية الشام.
بعد أن استقر الآراميون. ما هي الممالك والإمارات والدويلات والمدن التي أسسوها؟.
يمكن أن نوجز عملية نشوء هذه الدول بتجمع عدد من الأشخاص المتمردين المحاربين في منطقة أو مدينة ما، حول رجل بارز ومتمرس باستخدام الأسلحة، ثم يأخذ هذا الرجل ببسط حمايته وسيطرته على أراض ومدن مجاورة كما يقوم ببناء عدة مدن محصنة. وهذا كان واضحاً في بيت عديني وبيت آغوشي.
وقد كانت المرحلة الأولى من وجود هذه الدول تتميز بعدم وجود تنظيم مركزي بينها واكتفت بقيام روابط هشة للغاية فيما بينها. وهذه المرحلة الانتقالية تـُميز الحالة القبلية البدوية للدولة الآرامية، والتي تطورت حتى بلغت الدول الآرامية مرحلة المدينة الدولة، عندما تبدأ الحوليات الآشورية بذكرها بشكل كبير.
وقد وصف الآراميون ممالكهم ( بيت كذا ) ووصفوا حكامهم ( ابن كذا )، وهذا يشير إلى اسم شيخ العشيرة القبلية المسيطرة الذي قام بتأسيس المملكة، وتفسير ذلك أنه إذا قامت الدولة الآرامية الجديدة في منطقة لم تكن معروفة أو كانت حدود هذه الدولة لا تتطابق مع حدود دولة معروفة، فإن التسمية لهذه الدولة الجديدة كانت تبدأ بكلمة ( بيت كذا ) نسبة إلى الشخص الذي أسس الدولة.
ورغم أن المطران اسحق ساكا يورد تفسيراً آخر لكلمة بيت أو بيث الآرامية، إذ يقول في كتابه الموسوم (الآراميون) أن كلمة بيث أو بيت في الآرامية تعني دائماً موضع أو محل. فإننا نميل إلى التفسير الأول لعبد الهادي نصري والذي يقول إن كلمة بيث تعني بالعربية آل.
أما إذا قامت الدولة الجديدة مكان دولة معروفة فإن الدولة الجديدة كانت تأخذ اسم الدولة القديمة ولم تكن تسمى باسم جديد يبدأ بكلمة (بيت) مثل آرام حماه وآرام دمشق.
وفق تلك المعايير أسس الآراميون ممالكهم.
أما وصولهم إلى الجزيرة السورية فحدث قبل عهد الملك الآشوري تيجلات بيلاصر الأول ( 1112 ـ 1074 ق.م ) ، وأخذوا في تنظيم أنفسهم اجتماعياً وسياسياً طيلة القرن الحادي عشر.
وأهم الممالك التي أسسها الآراميون مملكة فدان آرام التي تقع في حوض البليخ، ومركزها حران وهي تعني الطريق لأنها تقع على طريق تجارية هامة. وقد ورد اسمها في النصوص المصرية التي تعود إلى القرن السادس عشر ق.م. ومصطلح (فدان ) اســـم عربي معناه ( سهل ) ومعنى ( فدان آرام ) هو ( السهل المنبسط ) ، و كلمة ( بدان ) بالآرامية تساوي ( فدان ) العربية. و(فدان آرام) هي إحدى هذه الممالك الواقعة في المنطقة الجنوبية المحيطة بمدينة حران، والتي تأسست في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
أما عن اشتقاق اســم مدينة (حران) في اللغة الأكادية فهو (حرانو) التي تعني الطريق، وقد ورد ذكرها في العهد القديم باسم (هاران) و(هارا) و (فدان آرام Padam Aram) أي حقل آرام. وذلك بمناسبة نصح إسحاق لابنه يعقوب بالذهاب إلى فدان آرام ليأخذ لنفسه زوجة من هناك من بنات خاله أخي أمه رفقة.
وسماها العرب حران، وقال بعضهم أن أول من بناها هو بهاران أخو إبراهيم الخليل وسميت على اسمه. ويـُذكر أن إبراهيم (عليه السلام) أقام في هذه المدينة بعد خروجه من العراق وزوّج ولده إسحاق فتاة حرانية ). وسميت آرام فدان في بعض المصادر التاريخية باسم آخر هو مملكة آرام النهرين، أو نهارين. وقد استمرت إلى القرن الثامن ق.م.
وكانت هناك في عهد الملك الآشوري تيجلات بيلاصر الثاني ( 966 ـ 935 ق.م ) ثلاث إمارات آرامية متجاورة كونتها قبيلة تيمانيا في السفوح الجنوبية لسلسلة جبال طور عابدين في مناطق نصيبين وماردين. وقد دعيت هذه المناطق في المصادر الآشورية باسم خاني جالبات. والإمارات هي: نصيبين ، حوزيرينا ( حالياً سلطان تبه )، جيدارة.
وإلى الشمال من طور عابدين وعلى ضفاف نهر دجلة أفلح الآراميون بتأسيس دولة بيت زماني. وهي إحدى تلك الدويلات التي قامت في فترة انحطاط الدولة الآشورية في المنطقة الكائنة بين الفرات وينابيع نهر الخابور، في القسم الأعلى من دجلة، واتخذت آمد ( ديار بكر ) قاعدة لها. ومن أهم مدن هذه الدولة تيدو الواقعة بجوار مدينة ماردين.
أما عشيرة بخياني الآرامية فقد وصلت إلى جوار منابع الخابور، واتخذت من مدينة جوزن التي هي تل حلف جوار بلدة رأس العين عاصمة لها في القرن الثاني عشر ق.م وتقع جوزن ( تل حلف) شمال غرب الجزيرة السورية عند منابع نهر الخابور, ورغم أننا لا نستطيع تعيين حدود هذه الدولة، فمن المرجح أنها سيطرت على جزء كبير من حوض الخابور الأعلى، وجاورها من الشرق مملكة نصيبين ومن الغرب مملكة بيت عديني، حيث كان البليخ الحد الفاصل بين المملكتين.
ونستنتج أن التسلسل المفترض لحكام جوزن الأوائل هو كالتالي: بخياني و خدياني و كـَبـَارا وأبي سلامو وكلهم حكموا منذ القرن الحادي عشر وحتى مطلع القرن التاسع. ومن المرجح أن يكون شمش نوري هو ابن أبي سلامو، وهدد يسعي حفيده، الذي ضم إلى مملكته مدينتي سيكان ( تل الفخيرية ) التي تقع إلى الشرق من جوزن ( تل حلف ) حوالي 7كم، وأرزن. وقد حكم في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م. لكن كـَبـَارا بن قاديانو كان هو الأكثر شهرة بين ملكوها، والذي بنى في غوزانا قصراً ومعبداً. وهو زعيم إحدى القبائل الآرامية وإليه يعزى تأسيس المملكة وبناء هيكل تل حلف.
وبعد أن استقبل هدد نيراري الثاني الجزية من أبي سلامو أمير بيت بخياني ومن مدينة سيكاني، سار ملازماً مجرى الخابور حتى وصل مدينة قطيني، عقدة المواصلات الهامة في بلاد الجزيرة. وتقع قطيني بين تل عجاجة الذي كان اسمه القديم شادوكاني ثم تحول إلى عربان بعد الفتح العربي. ومنذ مطلع هذا القرن صار يُعرف باسم تل عجاجة على بعد 30كم جنوبي الحسكة، وبلدة الشدادي 54كم جنوبي الحسكة أيضاً. وكان يحكمها آنذاك الأمير إيلو هدد الذي رحب بنيراري الثاني، ودفع له جزية، كما دفعها فيما بعد لآشور ناصر بال الثاني.
ومن مدينة قطيني زحف الجيش الآشوري على بلاد لاقي، التي كانت تشمل الجزء الجنوبي من حوض الخابور وحوض الفرات، الممتد من بلاد سوحي في الشرق وبيت عديني في الغرب. وعاشت في هذه البلاد بضعة عشائر آرامية منها عشيرة حديفة التي كان أميرها برعتاره بن خالوفي أول من خضع للملك الآشوري، وقدم له الجزية عندما دخل عاصمته سورو (تل الصور) الحالي الذي يقع على بعد 40كم إلى الشمال من مصب الخابور في الفرات، وتبعت لها مدن كيبنا، صفرو، عقرباني.
وهناك إمارة خينداتو الواقعة إلى الشرق من لاقي، وسوخي إلى الجنوب من خينداتو وترقة حتى عانا، وكانت مدينة خانات ( عانا الحالية ) مركزاً أساسياً فيها ومن مدنها كئيلة، بيت شبايا، خرادا، تلبيش، وغيرها.
وبعد سورو وحديفة عاصمة بيت خالوفي دخل مدينة أوساله ودور كاتليمو آخر مدينة شمالية في بلاد لاقي وهي تل الشيخ حمد على الضفة اليسرى لنهر الخابور بين بلدتي الصور في الجنوب والشدادة في الشمال. وتمتد إمارة لاقي على ضفتي نهر الفرات جنوب شـرق ديـر الـزور حتى جنوب ماري، وكانت عـاصـمـتـها سـيـرقـو،وتبعت لها مدن كيبنا، صفرو، عقرباني. وهناك إمارة خينداتو الواقعة إلى الجنوب الشرقي من لاقي.
وتقع مملكة بيت عديني بين البليخ شرقاً وضفتي نهر الفرات الأوسط غرباً، وسيطرت على حوض الفرات الممتد من كركميش وبلاد لاقي. ووصلت حدودها الشرقية حتى نهر البليخ والغربية حتى بلدتي الباب و اخترين. وكانت عاصمتها مدينة تل بارسيب التي هي الآن تل أحمر على الضفة الشرقية لنهر الفرات 20كم جنوبي جرابلس، وشملت منطقة منبج وقسماً من الرقة ودير الزور، وكانت قائمة في القرن الحادي عشر ق.م.
وقد عرفت بيت عديني في العهد القديم بعدن أو بيت عدن ووردت هذه التسمية في المدونات الآشورية باسم بيت عدني. وتعتبر بيت عديني من الممالك الآرامية القوية بل أقوى مملكة في مجموعة الممالك الآرامية المنتشرة غرب الجزيرة السورية.
وليس هناك ما يشير إلى زمان تأسيسها بالضبط، إلا أنها كانت موجودة ولاشك في الربع الأول من القرن الحادي عشر ق.م بدليل أن بلكال الأول ملك آشور ( 1087 ـ 1070 ق.م ) شنَّ عليها عدة هجمات متتالية عنيفة.
ويتألف اسم مملكة بيت عديني من بيت مضافاً إليه عديني وهي من عدن، عدّان أي الوقت المحدد كفصل القيظ آو الخريف .. الخ.
وفي أكثر الوثائق الآشورية ذكر لمدن، لم تكن في رأينا، إلا منازل لأفخاذ من قبيلة بيت عديني، التي حكمها أميرها وعاونه شيوخ أفخاذها، ونقع على أسماء هذه المدن متقاربة أو متباعدة.
ففي المنطقة الممتدة إلى الشمال من جبل بشري كانت مديني دوميتي وعزمو (آزمو). أما في أقصى الشمال من بلاد الشام فكانت كبرابي أو كفر أبي، إلى الشمال الغربي أو الشمال الشرقي من تل بارسيب، وقد تكون بالقرب من أورفة أو إلى الغرب منها على ضفة الفرات اليسرى شمالي جرابلس، وبجوارها كانت على الأرجح مدينة بقرو خبوني أو فقرو خبوني. وفي نفس المنطقة إلى الشرق والشمال من كركميش ( جرابلس ) كانت مدن لالاتي و يورمران وبيت أصالي أو بيت الصلاّل إلى الشمال من أرسلان طاش.
هذا إلى الشرق من الفرات أما إلى الغرب منه فكانت سورونو (سارين) على الضفة اليسرى لنهر الساجور، إلى الشمال الشرقي من جازيان تبه حوالي 15 كم، وياريبا ( فاريفا ) وهي مجهولة. وتل باشيرا (تل بشير) إلى الشمال الشرقي من دابق التي كانت هي نفسها تابعة لبيت عديني وتقع إلى الشمال من اخترين في محافظة حلب.
وتذكر المصادر أن قبيلة آرامية استقرت في الرها (وهي أورفة حالياً) وأسست دويلة مهمة أول ملوكها آريو وهي كلمة سريانية تعني الأسد. واستمرت إلى عام 244م. واشتهرت الرها كمركز هام للكنيسة السريانية منذ فجر المسيحية وقاعدة للعلوم والأديان منذ القرن الثالث (62).
* جدول بالممالك والمدن والقبائل الآرامية في الجزيرة السورية:
1- بيت بخياني: موقعها بجوار منابع الخابور, ومن المرجح أنها سيطرت جزء كبير من حوض الخابور الأعلى وجاورها من الشرق مملكة (نصيبين) ومن الغرب مملكة (بيت عديني) حيث كان البليخ الحد بين المملكتين. واتخذت عاصمة لها مدينة (جوزن) التي هي تل حلف جوار بلدة رأس العين.
2ـ مدينة (سيكاني): وهي تل الفخيرية التي تقع شرقي مدينة جوزن (تل حلف).
3ـ مدينة (أزران): موقعها مجهول.
4ـ مدينة (قطيني): عقدة المواصلات الهامة في بلاد الجزيرة وتقع بين تل عجاجة وبلدة الشدادة.
5- أمارات بلاد لاقي:
بلاد لاقي تشمل الجزء الجنوبي من حوض الخابور وحوض الفرات الممتد بين بلاد سوحي في الشرق وبيت عديني في الغرب.
6ـ فيها عشيرة (حديفة): وعاصمتها (سورو): وهي (تل الصور) حالياً وتقع شمالي مصب الخابور بالفرات.
7ـ مدن كيبنا ، صفرو ، ، عقرباني.: تابعة لمملكة لاقي التي امتدت على ضفتي نهر الفرات جنوب شرق دير الزور حتى جنوب ماري.
8ـ إمارة سوخي جنوب خينداتو وشرق عانا.
9ـ خانات ( عانا الحالية ): مركز أساسي في سوخي.
10ـ مدن كئيلة، بيت شايا، تلبيش : من مدن إمارة سوخي.
11ـ إمارة خينداتو : جنوب شرق لاقي.
12ـ (ترقة): وهي بلدة العشارة الحالية الواقعة بين ماري ومصب الخابور بالفرات.
13ـ إمارة (خنداتو): تقع إلى الجنوب من ماري على حدود بلاد سوحي. وتقع فيها مدينتي: (ناجياته) و(عقربا)
14ـ مدينة (دركوري كالصو).
15ـ (عانة) أكبر مدن سوحي
16ـ مدن: (سويري) و(كاسي) و(أوساله) و(دور كتليمور) وهي آخر مدينة شمالية في بلاد لاقية، وتقع على الضفة اليسرى لنهر الخابور بين بلدتي الصور في الجنوب والشدادة في الشمال.
17ـ مدينتا (سوبري) و(عربانا): قد يكون موقعهما في منطقة (البوكمال).
18ـ بيت خالوفة: عاصمتها (سوري).
19ـ مدينة (شوفايا): لعلّها تقع بين قطيني ودور كتليمور( تل الشيخ حمد ).
20ـ مدينة (صويري) ومدينة (عقراباني): حيث تقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات بين العشارة وعانة.
21ـ بيت حشابايا المقابلة لمدينة (خاريدي): التي تقع بين عانة وخنداتو.
22ـ مدينة (سورد) في سوحي.
23ـ مدن (خنتي) و(إيلو) على ضفاف الفرات.
24ـ مدينة: (كيبنا).
25ـ بيت عديني: سيطرت هذه المملكة على حوض الفرات الممتد من جرجميش وبلاد لاقي, ووصلت حدودها الشرقية حتى نهر البليخ, والغربية حتى بلدتي الباب واخترين. وكانت عاصمتها مدينة (تل برسيب): وهي الآن تل أحمر على الضفة الشرقية لنهر الفرات 20 كم جنوبي جرابلس.
وقد انتشرت أفخاذ قبيلة بيت عديني في حوض الفرات من جبال بشري حتى ما دون جرابلس, التي وقعت بين جناحي بيت عديني: الغربي يتألف من حوض الساجور والنصف الشمالي من حوض قويق, والشرقي ويمتد إلى الشمال من الخط الواصل بين تل بارسيب على الفرات وتل أبيض على البليخ.
26ـ مدينة (بيترو): الواقعة عند مصب الساجور بالفرات إلى الجنوب من جرجميش.
27ـ مدينة (موتكينو): الواقعة على ضفة الفرات اليسرى.
28ـ مدينتي (دوميتي) و(عزمو = آزمو) تقع على امتداد جبل(بشري) إلى شماله.
29ـ مدينة (كبرابي) تقع في أقصى الشمال من بلاد الشام. وقد تكون بالقرب من أورفة أو إلى الغرب منها. وبجوارها كانت على الأرجح مدينة (بقرو خبوني).
30ـ مدن (لالاتي) و(يورمران) و(بيت أصالي) أو(بيت الصلاّل): تقع إلى الشرق والشمال من كركميش (جرابلس).
31ـ مدينة (سورونو): غرب الفرات على الضفة اليسرى لنهر الساجور, إلى الشمال الشرقي من جازيان تبه حوالي 15كم.
32ـ مدينة (ياريبا) أو(فاريفا): مجهولة
وهناك ثلاثة أقاليم قطنتها قبائل آرامية:
1ـ بلاد لاقي: الممتدة على ضفاف الخابور الأسفل من الشدادة حتى مصب الخابور بالفرات, وعلى ضفاف الفرات بين دير الزور والعشارة.
2- بلاد خنداتو: على ضفاف الفرات بين العشارة وبلدة العبيدي في العراق.
3- بلاد سوحي: الممتدة على ضفاف الفرات ومقرها عانة الحالية.
الحياة السياسية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
يستدل من الوثائق المكتوبة بالخط الآرامي والمكتشفة في دور كاتليمو في تل الشيخ حمد أن الآراميين تمتعوا بالحكم الذاتي وكتبوا وثائقهم بخطهم وبلغتهم. ونعرف من أخبار الآشوريين أن الحكام المحليين كانوا آراميين ولم يستبدلوا بآشوريين إلا في حال تمردهم وعصيانهم.
حيث كانت سيطرة الآشوريين على الممالك الآرامية في الجزيرة السورية اسمية، فالحكام آراميون ولا يرتبطون مع الآشوريين بمواثيق أو معاهدات تكفل خضوعهم لهم، ولكنهم يدفعون الجزية فقط، ويحترمون سلطة الملك الآشوري، ويعترفون بنفوذه.
من هنا نجد أن الآراميين في الجزيرة السورية اعتمدوا النظام الملكي في الحكم، لكن ليس بشكله الأوتوقراطي البغيض.
وكانت جميع القصور الملكية الآرامية تبنى بوجود تنظيم إداري متقدم من خلال قاعات الموظفين والكتبة والصكوك.
وعلاوة على ذلك نلاحظ أن اسم العاصمة غير اسم المملكة، وهذا ما كان مألوفاً عند الآراميين، واستثنائياً عند القبائل التي سبقتهم فالأكاديون نسبة إلى أكد العاصمة، والبابليون نسبة إلى بابل العاصمة، والآشوريون نسبة إلى آشور العاصمة .. الخ.
ولم تتح النزعة الفردية المتنامية وروح الاستقلالية الكبيرة، للآراميين إقامة كيان سياسي موحد في المنطقة. وهذه المسألة تكمن بالتركيبة الاجتماعية والبنية الثقافية التي حكمت هذه الممالك، وهي نتاج نمط معروف من العقلية التي ترى في القبلية والعشائرية والطبقية محور وجودها. فقد كان العصر الآرامي هو آخر عصر في سلسلة عصور ممالك القبائل، التي توالت على السلطة في بلاد الهلال الخصيب، منذ مطلع الألف الثالث، وحتى منتصف الألف الأول ق.م.
الحياة الاقتصادية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
أظهرت الوثائق التي عثر عليها، وجود نظام ضريبي متطور نسبياً في الممالك والإمارات والمدن الآرامية التي قامت في منطقة الجزيرة السورية. حيث كان يتم تسجيل واحتساب ما يملكه كل فرد من أفراد السكان في كل قرية أو مدينة بالتفصيل، من مزارع وبساتين وأراض زراعية وممتلكات. إلى جانب عدد أفراد أسرته. وذلك من أجل تحديد من يتوجب عليهم من السكان دفع الضرائب وقيمتها، أو الإعفاء من تلك الضرائب.
واشتهر الآراميون بالتجارة شهرة الآشوريين بالحروب والفتوحات، حتى أنهم بزوا الفينيقيين في التجارة البرية، وأصبحوا سادتها بلا منازع، كما كان الفينيقيون سادة التجارة البحرية. فقد احتكر الآراميون تجارة سورية الداخلية، باحتكارهم طرق المواصلات المؤدية إلى البلاد المتاخمة، حيث جابت قوافلهم التجارية بلدان الهلال الخصيب ووصلت حتى منابع الرافدين شمالاً وأفريقيا جنوباً.
والثابت أنهم كانوا يستغلون وسائل النقل المائية، فكانت الأموال المرسلة من الشمال تـُحمل على مراكب تمخر مياه دجلة والفرات، منها ما كان يشحن من غوزانا ـ تل حلف بالذات، وقد اكتشف باحث الآثار الألماني فون أبونهايم فرضة أي مرفأ نهرياً في غوزانا ـ تل حلف، ومنه كانت المراكب تنحدر في الخابور ثم في الفرات لتبلغ بلاد بابل.
كما أجاد الآراميون صناعة التحف العاجية وصياغة الحلي الذهبية والفضية والنحاسية، وصناعة الأسلحة والمركبات الحربية، وصناعة نسيج الأقمشة الحريرية المزركشة. فقد عثر في تل حلف على إناء برونزي منقوش من النوع المسمى الإناء الانسيابي.
وكان طريق نهر الفرات من أهم الطرق المائية، التي سارت فيها القوارب المحملة بكميات كبيرة من المعادن والسلع الغذائية، منذ أمد بعيد. أما نهاية الطريق النهري فربما كانت في مدينة سورو في أرض لاقي عند ملتقى الخابور مع الفرات، في المكان الذي استلم فيه توكولتي نينورتا الثاني 22تالنت من القصدير، وهو مكان الشحن على الفرات للبضائع التي كانت تجلبها القوافل التجارية من الغرب، وكذلك كان النقطة التي تذهب منها البضائع بالقوارب وبالطرق البرية باتجاه حران وجوزن.
تمتد جذور الإقطاع الزراعي بعيداً في أعماق التاريخ، وقد كانت في عصر الممالك الآرامية "1200ـ 530ق.م" مثل عصر الممالك الكنعانية السابقة لها، عبارة عن أنماط من حيازة الحقول لم تتغير في جوهرها، إنما نشطت الأسر في استثمار الأرض في هذا العصر، واختص الكثير منها بحقول، عمل بها أفرادها. كما إن الملك وحاشيته امتلكوا الحقول وأقتطعوها للمتنفذين.
واعتمد الآراميون في غذائهم بشكل متساو على الحبوب والخضروات والفاكهة. أبرز أنواع الحبوب التي بدا أنها كانت الأهم هي الشعير ثم القمح. حيث كان الشعير وسيلة الدفع (التسعير) في الحضارة الرافدية القديمة، قبل أن تصبح الفضة والذهب هي الوسيلة في وقت لاحق. وتوضح الحوليات الآشورية أحياناً أن زراعة الكرمة وزراعة الأشجار المثمرة، ترافقت مع زراعة الحبوب في المنطقة نفسها.
وكان الآراميون يتركون نصف الأرض الزراعية للراحة دون زراعة، من أجل المحافظة على خصوبة التربة وعدم إفقارها، عبر إتباع نظام متعاقب من الزراعة، والذي يعرف في أيامنا هذه بالدورة الزراعية.
وكان في المنطقة نوعان من الزراعة، الأول هو الزراعة البعلية التقليدية، والثاني الزراعة المروية، فمن جهة زراعة بعلية في الشريط الواقع شمالي معدل الهطولات المنطرية 200مم، ومن جهة أخرى نظام ري على وادي النهر الذي يعتمد على زراعة الحبوب إلى جانب الخضار.
وقد كان نظام ري الأراضي بوساطة الأقنية موجوداً في أغلب الأحواض المائية، كما أسهم نظام السقاية في بعض المناطق في تعديل الأساليب التقليدية التي كانت متبعة في بلاد آشور وشمالي بلاد الرافدين.
وتصف حوليات توكولتي نينورتا الثاني "890ـ 884 ق.م"، اقتصاداً مختلطاً من تربية المواشي والزراعة لدى سكان لاقي، عن طريق الذكر المتكرر لضرائب تتألف من الغنم والثيران. وتذكر أيضاً الحبوب والتين والجياد والبغال. ومن جوزن جاءت أيضاً لوحة منحوتة فيها تمثيل لجمل يمتطيه رجل يجلس على سرج يشيه الصندوق، يعود تاريخها للقرن التاسع ق.م. وذكر هدد نيراري الثاني أنه جلب من بيت عديني أنثى قرد كبيرة وأخرى صغيرة. وتلقى عدداً غير محدد من البط من بيت خالوفي على نهر الخابور. ووجد في شمأل دمية طينية تمثل الفيل وراكبه.
الحياة الثقافية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
يمكن القول أن الدور الآرامي الحضاري بدأ وتصاعد منذ الألف الثانية ق.م. وكانوا رسل المدنية والثقافة. فانتقلت معهم لغتهم الآرامية وغدت لغة الثقافة والدبلوماسية ولغة الجمهور وحلت مكان البابلية والكنعانية والآشورية، وعمَّ اللسان الآرامي الشرق حتى في آشور عاصمة الدولة الآشورية،
وكما انتقلت اللغة الكنعانية مع التجار الكنعانيين غرباً، فإن اللغة الآرامية انتشرت شرقاً مع القوافل التجارية الآرامية في أصقاع عديدة من الشرق الأدنى. فقد حصل الأرمن والفرس والهنود على أبجديتهم من مصادر آرامية، وحروف الفهلوية والسنسكريتية هي من أصل آرامي. وحمل الكهنة البوذيون من الهند الأبجدية السنسكريتية إلى قلب الصين وكوريا. وهكذا وصلت الحروف الفينيقية شرقاً بطريق الآرامية إلى الشرق الأقصى، وغرباً بطريق اليونانية إلى الأمريكتين مطوفة العالم كله.
من هنا نجد أن اتساع اللغة الآرامية كان أكبر بكثير من المجال الذي امتدت إليه الدول الآرامية، ونستطيع القول أن الوحدة القومية التي عجزت عن تحقيقها امبراطوريات آشور وبابل وصور وقرطاجة قد حققتها الثقافة واللغة الآرامية.
وبقيت الآرامية لغة الثقافة والتجارة والإدارة والفكر والأدب، عهوداً طويلة تقرب من ألفي عام، إلى أن أخذت تتراجع أمام اللغة العربية، التي حملت لواء الحضارة العربية المتجددة في القرن السابع ق.م. حيث تقلص دورها بالتدريج واقتصر أخيراً على التعليم الديني لمئات الآلاف من الناس في سورية والرافدين والجزيرة وإيران.
كما إن اللهجات الآرامية انقرضت ولم يبق منها سوى السريانية، حيث يتكلم فيها العرب السريان في الجزيرة السورية وحلب ومعلولا وبخعة وجبعدين في جبل القلمون.
ويحتل الفن في جوزن ( تل حلف )، مكان الصدارة بين مراكز الفن الآرامي ليس في الجزيرة السورية فحسب، وإنما في كافة المناطق الأخرى التي نشأت فيها ممالك وإمارات آرامية. ففي هذا المركز ظهر وترعرع الفن الآرامي قبل نشوئه وترعرعه في بلاد الشام.
وقد اهتم الملوك الآراميون في الجزيرة السورية بتحصينات المدن وبناء القصور الضخمة والواجهات الكبيرة كما عرف الآراميون النصب ذات الموضوعات الأدبية القصصية المتكاملة. كنصب تل العشارة.
هذا من حيث الموضوع، أما من حيث الأسلوب فنرى الفنان الآرامي في الجزيرة السورية، قد حافظ على الشكل التكعيبي للكتلة الحجرية،
الحياة العمرانية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
شكل البيت محور الحياة الأسرية في المجتمعات الآرامية في الجزيرة السورية. ولأن الآراميين كانوا بدواً قبل إنشاء ممالكهم، فقد كانت الخيمة هي البيت الأول الذي أقامه الآرامي في حله وحمله وترحاله في البادية.
ويعد الطين المادة الأساسية لبناء المسكن في أغلب مناطق المشرق العربي القديم. و كان هناك أكثر من شكل للبيت فهناك البيوت الطينية القببية، التي لازالت تستخدم في بعض مناطق سورية حتى الآن، وهناك بيوت ذات سقوف طينية مسطحة. وكانت البيوت متفاوتة الحجم والمساحة وعدد الحجرات، وذلك تبعاً لمالك البيت ووظيفته الاجتماعية والطبقة التي ينتمي إليها.
و بنى الآراميون مدنهم في مناطق مرتفعة محصنة بشكل طبيعي، وبأسوار منيعة، وفي هذه المدن أقاموا القصور والمعابد المسوّرة.
ونشا شكل المعبد الآرامي عن امتزاج تقليدين حضاريين عريقين في بلاد الشام أولهما المعبد الكنعاني/الأموري والثاني بيت عيلاني/حيلاني ( أي البيت العالي ) الآرامي. وعادة تبنى المعابد في العمارة الدينية لدى الآراميين فوق مصطبة مرتفعة تكسى واجهتها بالأحجار البازلتية المنحوتة على شكل سباع وأبي الهول الآرامي.
إذا كانت المعابد الآرامية قد نشأت من امتزاج أسلوبين بعضهما ببعض، فإن القصور الآرامية قد بنيت وفق مخطط البناء المعروف ببيت هيلاني/حيلاني أي البيت العالي. وهو اسم أطلقه الآشوريون على قصور بلاد ختي (الممالك الآرامية في شمالي بلاد الشام ) التي كانت متميزة عن قصورهم. والتي كانت متشابهة في الشكل العام، ومختلفة ببعض الجزئيات. والقصر الآرامي مقر الحاكم أيضاً ومسكنه، وهو صغير لأن المملكة الآرامية صغيرة، وحاكمها لا
يملك إلا عاصمته ومساحات صغيرة حولها.
الحياة الدينية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
تبنى الآراميون بعد استيطانهم الهلال الخصيب، مختلف العقائد التي كانت سائدة فيه، وعبدوا كل الآلهة التي كانت معروفة آنذاك، وهي آلهة بلاد مابين النهرين وآلهة الكنعانيين والحثيين والحوريين.
حيث عبد الآراميون الآلهة العربية القديمة، ملقارت الفينيقي وآيل الكنعاني. ويأتي على رأس الآلهة الاله حدد ( أدد ) إله الزوابع والرعد والمطر، وهو نفسه بعل شمين سيد السموات. كما انتقل تأثير الديانة الآرامية إلى المصريين، و عبدت القبائل الآرامية في العراق الاله آنو، وهو أكبر الآلهة ومكانه في السماء ويسمو عن الادراك.
وأشهر الآلهة التي عبدها الآراميون هي : حدد، سين ، ركب ، إيل، بعل، شمين، ملقارت، شمش. بيد أن الإله الأوفر حظاً عندهم كان حدد الذي يمكن اعتباره زعيم آلهة الآراميين. ولهذا الإله زوجة تدعى أنارغاتس وهي الهة الخصب.
وأهم ما اعتقد به الآراميون، عودة الحياة إلى الإنسان بعد موته ومواصلته الحياة، ولكن بهيئة جديدة وبشكل آخر غامض.
ما هو مصير الآراميين في الجزيرة السورية
بعد هذا الاستعراض للآراميين الذين استوطنوا في منطقة الجزيرة السورية، من جميع النواحي، موطنهم الأصلي، ممالكهم، مدنهم، حياتهم بمختلف أطيافها سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً، عمرانياً، دينياً. يبرز أمامنا السؤال التالي: أين انتهى مصير هؤلاء الآراميين، ونقصد آراميي الجزيرة السورية. وهو سؤال مهم. فهل ذاب هؤلاء في الأقوام التي تلتهم، أم لا يزال هناك من يصح أن يقال عنهم أنهم منحدرون من أصل آرامي؟.
وجواباً على هذا السؤال نقول: السريان هم الآراميون بالذات، ويخطئ من يفصل أو يميز ما بين الآراميين والسريان كشعب، أو ما بين آرام وسورية كبلاد، أو ما بين الآرامية والسريانية كلغة. ويخطئ أكثر من يعتبر السريان فرعاً من آرام، والسريانية فرعاً من الآرامية.
فقد أخذت التسمية السريانية تحل محل الآرامية، أو تنوب عنها منذ ظهور المسيحية. وهكذا أصبح اسم السرياني يعني المسيحي، وليميز المسيحيين من بني جنسهم الآراميين الذين لم يكونوا بعد قد اعتنقوا المسيحية، لذلك أمست لفظة آرامي مرادفة للفظة الوثني، ولفظة السرياني مرادفة للفظة المسيحي.
لنعد ونطرح السؤال بشكل آخر، إذا كان الآراميون قد اتخذوا تسمية جديدة هي السريان في العهد المسيحي، ترى هل أن جميع الذين يعرفون اليوم باسم السريان، أو بعبارة أخرى الذين ينضوون تحت لواء الكنيسة السريانية بمختلف طوائفها هم أحفاد الآراميين القدماء؟.
ولأن ثمة عناصر غير آرامية دخلت الكنيسة المسيحية السريانية. فإننا لا نستطيع القول إن جميع الذين يسمون سرياناً هم آراميون أصلاً، ولكن في الوقت نفسه هنالك من لا يتكلمون اللغة السريانية ولا ينتسبون إلى أية طائفة أو كنيسة سريانية، لكنهم آراميون أصلاً كالصايئة مثلاً، الذين مازالوا يحتفظون باللغة الآرامية كلغة دينية طقسية رغم أنهم يتكلمون اللغة العربية.
وهكذا نجد أن كلمة السريان هي أكثر شمولية من كلمة الآراميين، لأنها تشمل كل الأقوام الذين آمنوا بالمسيحية على مذهب الكنيسة السريانية، في حين أن الآرامية لا تشمل سوى عنصر واحد فقط.
وهنا يبرز أمامنا السؤال التالي: هل ترى أن جميع سكان منطقة الجزيرة السورية من الآراميين اليوم هم آراميون أصلاً؟.
والجواب بالنفي طبعاً. ذلك بأن أقواماً عديدة سيطرت على المنطقة بعد الآراميين، وبانتهاء عهدها تخلف منها في البلاد فلول وجاليات، انصهرت فيما بعد في البوتقة العربية على اثر الفتح العربي الإسلامي. ولهذا فإن أبناءها يعدون اليوم عرباً وليس آراميين.
وبناء على ذلك نسال: هل نستطيع أن نسمي الآراميين عرباً؟ ولاسيما أنهم كانوا شعباً مستقلاً له كيانه وحضارته ولغته ونسبه وسيادته.
هناك شبه إجماع على إرجاع سكان المنطقة العربية منذ القديم، إلى أصل وأرومة واحدة، رغم تشكيلهم عدة شعوب ودول وممالك وإمبراطوريات، لذلك اصطلح على إطلاق تسمية واحدة لتلك الشعوب من آشورية وأكادية وعمورية وكنعانية وآرامية وحضر وأنباط اسم العرب القدماء، لأنهم يشكلون الأرومة الأساسية للشعب العربي الذي ورث تلك الحضارة وحمل ذلك الامتداد البشري والسياسي والحضاري. فأولئك هم السلف العرب القدماء ونحن العرب المعاصرون.
وعندما هلك آخر أقوام الآراميين وهي عاد وثمود، أصبح اسم الآراميين أرمان وهي آرام مضافاً إليها ان في النهاية، وهما حرف التعريف حسب الجنوب العربي، والأقوام البائدة هي عاد وثمود وطسم وجديس واميم والعمالقة. وأطلق عليها اسم العرب البائدة، كما كانت تحمل اسم العرب العاربة بمعنى الرساخة في العروبة كما يقول ابن خلدون. وهذا يعني أن الآراميين هم أصول العرب ف
كما يعود السبب في كثرة الجدل حول الآراميين، وغياب أجوبة واضحة قاطعة جازمة حول الكثير من أوضاعهم، إلى تدمير الأرشيفات السورية التي توضح التاريخ السياسي لعصر البرونز المتأخر، وذلك نتيجة للكارثة التي ضربت بعض المناطق السورية وأصابت عدداً من مراكز المدن في مطلع القرن الثاني عشر ق.م. الأمر الذي أدى إلى عدم وجود شواهد مكتوبة عن القرنين الأخيرين من الألفية الثانية ق.م. ولهذا سميت هذه الفترة بالعصر المظلم.
وقبل الدخول في التفاصيل عن أصل الآراميين والمناطق التي عاشوا فيها ومختلف أوجه حياتهم، نتساءل ما معنى كلمة آرام ومن أين جاءت هذه التسمية، أي لماذا سمي الآراميون بهذا الاسم بالذات دون غيره من الأسماء؟
ثمة من يقول: الآراميون هم أحفاد سام بن نوح. الآراميون مجموعة من الشعوب التي أطلق عليها مصطلح الشعوب السامية، استناداً إلى ما جاء في سفر التكوين ، واعتباراً من أن هذه الشعوب منحدرة من سام بن نوح، وآرام أحد أبناء سام، وإليه نسبت إحدى القبائل الآرامية المتعددة. ثم تغلبت هذه التسمية على تسمية القبائل الآرامية الأخرى.
وهناك قول آخر: تسمية آرام تسمية جغرافية والمقصود بها الأراضي المرتفعة في المناطق الجبلية الشمالية. وإن مصطلح "آرام نهريم" يقصد به الأقسام الشمالية من نهري دجلة والفرات وبالتحديد نهر الفرات وفي المنطقة الواقعة بين منبع البليخ وحتى الفرات، وعرفت بمنطقة ما بين النهرين ومركزها حران جنوبي الأناضول. وأطلقت عليها تسمية ميسوبوتاميا Mesopotamia من قبل الإغريق، وكان المؤرخ اليوناني بوليبوس "202 ـ 120 ق.م" هو من أطلق هذه التسمية على ما بين النهرين.
وأطلق الآشوريون تسمية أرومو و آرامو على بلاد آرام وسكانها، حيث عرف اسم آرام منذ عهد الملك الأكادي نارام سين "2250 ق.م " كما يقول موسكاتي في كتابه "الحضارة القديمة".
وإذا كان عبد الهادي نصري يبتعد في كتابه "شمس آرام شمس العرب" عن ذكر المفهوم السامي ويستبدله بمصطلح العرب القدماء.
فإن المطران اسحق ساكا يورد عدة روايات حول نسب آرام فهو في إحدى الروايات الابن الخامس لسام بن نوح، وفي رواية أخرى هو ابن قموئيل بن ناحور وناحور أخ ابراهيم الخليل عليه السلام. وفي رواية ثالثة هو من نسل أشير الجد الأعلى لقبيلة أشير.
ويسترسل المطران ساكا قائلاً: إن ضبط لفظ آرام وكتابة هذا الاسم تتم بمد الألف والراء مفتوحتين كما هو ثابت وشائع في اللغات العربية والسريانية والعبرية. ويقول الدكتور أنيس فريحة آرام بمد وآرام بدون مد والأصح بمد. ويميز المطران ساكا بين لفظتي آرام وإرم وبين الآراميين والإرميين. قال ابن العبري : ( إن الآراميين يأنفون من الاختلاط بالإرميين ). ويؤكد أن لفظة آرام لا علاقة لها بإرم ذات العماد، لأن المراد في القرآن الكريم اسم مدينة.
وآرام في التوراة اسم علم وهي لفظة سريانية مشتقة من جذر سامي مشترك "روم " بمعنى المرتفع أو العالي. وقيل إنه يعني الجبل أو الوعر وهو عكس معنى آشور بمعنى السهل. وقال الأب مارتين إن آشور معناها خطوة ومشية، أما آرام فهو لفظ عبراني مشتق من روم أي ارتفع أو " ورم " بالعربية أي انتفخ.
وقد سمي الآراميون كذلك، إما لأنهم سكنوا المرتفعات والجبال على حد قول البعض، رغم أن هذا الأمر غير وارد جغرافياً، وإما لأن الاسم يشير إلى علو المكانة وسمو المنزلة، نظراً للتقدم الحضاري الذي أحرزه الآراميون بانتشار لغتهم، وبالمقابل إن اسم بلاد كنعان تعني الأرض المنخفضة وهي مشتقة بالعبرية من فعل "كنع" أي ركع وانخفض. وهو لفظ ميت في الكلدانية بمعنى خزي، وفي العربية خضع.
وثمة نصوص أخرى يرد فيها اسم الأحلامو ولكن بشكل نادر. وبقي اسم الأحلامو مضافاً إلى اسم الآراميين دون معرفة السبب حتى حوالي القرن الثاني عشر ق.م، لتنحسر تسمية الأحلامو بعد هذا التاريخ، لتحل محلها تسمية "الآراميون".
بعد أن تعرفنا على معنى كلمة آرام، نتساءل من هم الآراميون؟.
والسبب الذي دفعنا لإطلاق هذا السؤال يعود إلى عدم وجود إجابة واضحة ومحددة حول أصل الآراميين وهويتهم. فمن قائل أن الآراميين هم نفسهم قبيلة الأحلامو أو الأخلامو، إلى قائل أن الأحلامو لا علاقة لهم بالآراميين، ولاسيما أن الأحلامو ظهروا إلى الوجود قبل الآراميين. إلى قائل أن الآراميين يمثلون مجموعة من القبائل كالأحلامو أو الأخلامو والخابيرو والسوتو وسواها، إلى قائل أنهم يختلفون عن هذه القبائل، ومنفصلون عنها، حتى ولو اشتركوا مع شعوبها ببعض الخصائص الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية... وهكذا.
وتذكر المصادر المسمارية أخبار الأخلامو، الذين يبدو أنهم كانوا يشكلون القسم الأكبر والأقوى بين القبائل الآرامية في مناطق الفرات الأوسط الممتدة من بلاد سوخي "مناطق عانا" حتى كركميش "جرابلس" في القرن السابع عشر ق. م حيث ورد ذكرهم في رسالة ضمن أرشيف تل الدير ( سيبار أمنانوم ) جنوب غرب بغداد، تعود للنصف الثاني من القرن السابع عشر ق.م، ونقرأ فيها أن بلوشونو يعلم أباه أنه لا يستطيع تحقيق رغبته في شراء شعير له، لأن الأحلامو لم يأتوا إلى المدينة بعد.
وهناك نص آشوري يعود إلى عهد الملك الآشوري أريك دين إيلو "1325ـ 1311 ق.م" يقول فيه أنه خاض معركة ضد قوات الأحلامو والسوتو في منطقة شمالي دجلة.
وقد ترافق ذكر الأحلامو مع الآراميين في نصوص تيجلات بيلاصر الأول "1112ـ 1074 ق.م" الأمر الذي أدى للكثير من الجدل والبحث في العلاقة التي تربط بين الاسمين أو المجموعتين البشريتين. هل هما مجموعتان مختلفتان، أم هما اسمان مختلفان لمجموعة بشرية واحدة؟.
ووجد البعض في اصطلاح أخلامو معنى صديق أو رفيق، بالعودة إلى جذر ( خلم ) في معاجم اللغات السامية ومنها العربية.
وكثيراً ما تذكر الوثائق السوتيين والآراميين و الأحلامو في آن واحد. ففي حين افتخر أريك دين إيلو وسنحاريب بانتصارهما على السوتيين والأحلامو، ذكرت كتابة تعود إلى عصر آشور بل كالا الآراميين والسوتيين والأحلامو معاً.
والخلاصة لدى د.علي أبو عساف أن الآراميين كانوا موجودين كبدو في بلاد الشام منذ القرن الخامس عشر ق.م وإن عبارة الشاصو (البدو) المصرية لابد وأنها كانت تشمل أيضاً الآراميين.
ويقول المطران اسحق ساكا، أن الآراميين برزوا على مسرح التاريخ في الألف الثالث ق.م على شكل قبائل رحالة عديدة.
ولم يكن الآراميون في بادئ أمرهم سوى قبائل رحل تجوب مختلف المناطق سعياً وراء الكلأ وموارد الرزق، حسب رأي المطران صليبا شمعون، حتى إذا ما هب عليهم نسيم الحضارة، الذي جاءهم من وادي الرافدين، أخذوا يزحفون نحو الشمال فوصلوا بلاد الشام واحتلوها. فيما اتجه قسم آخر منهم نحو الشمال الشرقي، ثم تغلغلوا في أعماق سورية حتى وصلت بعض قبائلهم إلى أقصى الشمال، فاستقروا هناك في أعالي ما بين النهرين، وأخذوا يعملون في الزراعة، في حين زحفت قلة منهم إلى مصر عن طريق صحراء سورية وبرية سيناء، وعرفت هناك باسم ( سوتو ) أي الرحل.
كما نزح قسم آخر من قبائلهم إلى بلاد أكد ( جنوبي العراق ) حيث أسسوا لهم دويلات صغيرة مبعثرة هنا وهناك، وصار لهم فيما بعد شأن يذكر في تاريخ تلك المنطقة. كما اتجه قسم آخر من قبائلهم نحو الشمال الشرقي. وقد جاء هذا التوسع الجغرافي نتيجة لفتوحاتهم والغزوات التي شنوها ضد الشعوب التي قطنت البلاد قبلهم كالأموريين والميتانيين والحثيين، وفرضوا سيطرتهم عليهم وأسسوا دويلات صغيرة على أنقاض ممالكهم.
وبناء على ذلك نعود للقول إن طلائع القبائل الآرامية الزاحفة نحو الشام عرفت أولاً باسم (أحلامو) وهي تعني الرفاق. وقد وردت هذه التسمية في رسائل تل العمارنة في القرنين الخامس والرابع عشر ق.م.
ويؤكد دوبون سومر أن نشأة الشعب الآرامي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر ق.م. ويرجع أسد الأشقر الوجود الآرامي إلى فترة أسبق، من خلال إشارات ترد منذ عام 3100 ق.م عن السلالات المصرية الأولى إلى قبائل في بلاد الشام باسم (سيتو).
وعندما هلك آخر أقوام الآراميين وهي عاد وثمود، أصبح اسم الآراميين ( أرمان ) وهي آرام مضافاً إليها ( ان ) في النهاية، وهما حرفا التعريف حسب الجنوب العربي.
وعندما نتساءل من أين جاء الآراميون وأين استقروا؟ تبرز أمامنا عشرات الروايات، وخاصة عن المنطقة التي انطلقوا منها أكثر من المنطقة التي استقروا فيها. فبعض المؤرخين والكتاب يقولون أنهم كانوا يعيشون في شبه الجزيرة العربية، وعندما حصل الجفاف وقلَّ الكلأ والمرعى وتناقصت مصادر العيش في مقابل ازدياد عدد السكان، اضطر الآراميون للهجرة إلى المناطق الخصبة. وحتى موضوع معيشتهم في شبه الجزيرة العربية اختلف عليه المؤرخون. فمنهم من يقول أنهم كانوا يعيشون في جنوب الجزيرة العربية، ومنهم من يقول أنهم كانوا يعيشون في شمالها.
وبالمقابل هناك العديد من المؤرخين والكتاب ينفون وجودهم في شبه الجزيرة العربية كلياً لا شمالاً ولا جنوباً. ويقولون أن موطن الآراميين هو سورية أو بلاد الشام. والبعض منهم ذهب إلى تحديد مكان وجودهم بدقة، وهو بادية بلاد الشام.
وبعد أن يذكر أنه من الصعب تحديد أصل الآراميين وتأريخ بداية نشوئهم، بسبب الغموض الذي اكتنف تاريخهم من جهة، ومن جهة أخرى لندرة الوثائق المتعلقة بهم، يقول دوبون سومر أن السؤالين التاليين يبقيان دون جوابٍ مرض ٍ: في أي عصر قدم الآراميون إلى بلاد الهلال الخصيب؟ ومن أين؟. ورغم أنه يقر بعدم توافر أي وثيقة يمكن اعتمادها للإجابة بدقة عنهما، حتى ولو كانت أسطورة، يرجح سومر أن موطنهم الأصلي في الصحراء السورية.
ويقول عبد الهادي نصري إن البعض يرجح أن موطن الآراميين الأول إلى الخليج العربي أو شمالي الرافدين أو الجزيرة العربية أو بادية بلاد الشام. ويستشهد بما ذكره اسحق ساكا في الجزء الثالث من كتابه السريان إيمان وحضارة، أن المستشرق الايطالي اغناطيوس غويدي يعتبر الجزء الأسفل من الفرات هو المهد الأول للآراميين. وهناك رأي آخر لأديب فرحات يعتبر أن الآراميين هم أسبق بالهجرة من الخليج العربي إلى الساحل السوري، وعندما هاجر الكنعانيون اختلطوا بهم وشكلوا مجموعة جديدة أطلق عليها اسم الفينيقيين.
ونقف هنا عند وجهة نظر أخرى لإسحق ساكا تقول إن معظم سكان الجزء الأسفل من الفرات كانوا من الآراميين. و يرى ساكا أنه من المؤكد أنهم قبل الميلاد بألفي عام كانوا متواجدين في جنوب العراق وادي الرافدين أو سهل شنعار، ودليله على ذلك وجود إبراهيم الخليل في مدينة أور العراقية ومن الثابت أن إبراهيم كان آرامياً.
وهاهو المطران صليبا شمعون يتفق معنا في الرأي أن آراء الباحثين تعددت و مذاهبهم تضاربت في تحديد موطن الآراميين الأم. نظراً إلى ما يكتنف تاريخهم من غموض، بسبب ضآلة المصادر والوثائق التاريخية عنهم. فقد جعل قوم موطن الآراميين شمال أفريقيا وغيرهم آسيا الصغرى.
إلا أن الرأي المعوّل عليه هو أنهم أبناء الجزيرة العربية، وهذا أمر يكاد يجمع عليه ثقات المؤرخين، لكنهم اختلفوا في تحديد المنطقة، أهي جنوب الجزيرة العربية أم شمالها أم رقعة أخرى منها؟. ذلك بأن قوماً يذهبون إلى أن الآراميين جاؤوا من جنوب الجزيرة العربية في إحدى الموجات النازحة منها واستوطنوا المنطقة المعروفة بالهلال الخصيب. وهناك من يقول أن موطنهم الأم هو أصلاً شمال الجزيرة العربية. وقد يكون هذا الرأي أقرب إلى الحقيقة والصواب.
وبناء على ما تقدم يمكن القول إن موطن الآراميين الأم يقع في المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية، أي جنوبي الصحراء السورية المعروفة ببادية الشام.
بعد أن استقر الآراميون. ما هي الممالك والإمارات والدويلات والمدن التي أسسوها؟.
يمكن أن نوجز عملية نشوء هذه الدول بتجمع عدد من الأشخاص المتمردين المحاربين في منطقة أو مدينة ما، حول رجل بارز ومتمرس باستخدام الأسلحة، ثم يأخذ هذا الرجل ببسط حمايته وسيطرته على أراض ومدن مجاورة كما يقوم ببناء عدة مدن محصنة. وهذا كان واضحاً في بيت عديني وبيت آغوشي.
وقد كانت المرحلة الأولى من وجود هذه الدول تتميز بعدم وجود تنظيم مركزي بينها واكتفت بقيام روابط هشة للغاية فيما بينها. وهذه المرحلة الانتقالية تـُميز الحالة القبلية البدوية للدولة الآرامية، والتي تطورت حتى بلغت الدول الآرامية مرحلة المدينة الدولة، عندما تبدأ الحوليات الآشورية بذكرها بشكل كبير.
وقد وصف الآراميون ممالكهم ( بيت كذا ) ووصفوا حكامهم ( ابن كذا )، وهذا يشير إلى اسم شيخ العشيرة القبلية المسيطرة الذي قام بتأسيس المملكة، وتفسير ذلك أنه إذا قامت الدولة الآرامية الجديدة في منطقة لم تكن معروفة أو كانت حدود هذه الدولة لا تتطابق مع حدود دولة معروفة، فإن التسمية لهذه الدولة الجديدة كانت تبدأ بكلمة ( بيت كذا ) نسبة إلى الشخص الذي أسس الدولة.
ورغم أن المطران اسحق ساكا يورد تفسيراً آخر لكلمة بيت أو بيث الآرامية، إذ يقول في كتابه الموسوم (الآراميون) أن كلمة بيث أو بيت في الآرامية تعني دائماً موضع أو محل. فإننا نميل إلى التفسير الأول لعبد الهادي نصري والذي يقول إن كلمة بيث تعني بالعربية آل.
أما إذا قامت الدولة الجديدة مكان دولة معروفة فإن الدولة الجديدة كانت تأخذ اسم الدولة القديمة ولم تكن تسمى باسم جديد يبدأ بكلمة (بيت) مثل آرام حماه وآرام دمشق.
وفق تلك المعايير أسس الآراميون ممالكهم.
أما وصولهم إلى الجزيرة السورية فحدث قبل عهد الملك الآشوري تيجلات بيلاصر الأول ( 1112 ـ 1074 ق.م ) ، وأخذوا في تنظيم أنفسهم اجتماعياً وسياسياً طيلة القرن الحادي عشر.
وأهم الممالك التي أسسها الآراميون مملكة فدان آرام التي تقع في حوض البليخ، ومركزها حران وهي تعني الطريق لأنها تقع على طريق تجارية هامة. وقد ورد اسمها في النصوص المصرية التي تعود إلى القرن السادس عشر ق.م. ومصطلح (فدان ) اســـم عربي معناه ( سهل ) ومعنى ( فدان آرام ) هو ( السهل المنبسط ) ، و كلمة ( بدان ) بالآرامية تساوي ( فدان ) العربية. و(فدان آرام) هي إحدى هذه الممالك الواقعة في المنطقة الجنوبية المحيطة بمدينة حران، والتي تأسست في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
أما عن اشتقاق اســم مدينة (حران) في اللغة الأكادية فهو (حرانو) التي تعني الطريق، وقد ورد ذكرها في العهد القديم باسم (هاران) و(هارا) و (فدان آرام Padam Aram) أي حقل آرام. وذلك بمناسبة نصح إسحاق لابنه يعقوب بالذهاب إلى فدان آرام ليأخذ لنفسه زوجة من هناك من بنات خاله أخي أمه رفقة.
وسماها العرب حران، وقال بعضهم أن أول من بناها هو بهاران أخو إبراهيم الخليل وسميت على اسمه. ويـُذكر أن إبراهيم (عليه السلام) أقام في هذه المدينة بعد خروجه من العراق وزوّج ولده إسحاق فتاة حرانية ). وسميت آرام فدان في بعض المصادر التاريخية باسم آخر هو مملكة آرام النهرين، أو نهارين. وقد استمرت إلى القرن الثامن ق.م.
وكانت هناك في عهد الملك الآشوري تيجلات بيلاصر الثاني ( 966 ـ 935 ق.م ) ثلاث إمارات آرامية متجاورة كونتها قبيلة تيمانيا في السفوح الجنوبية لسلسلة جبال طور عابدين في مناطق نصيبين وماردين. وقد دعيت هذه المناطق في المصادر الآشورية باسم خاني جالبات. والإمارات هي: نصيبين ، حوزيرينا ( حالياً سلطان تبه )، جيدارة.
وإلى الشمال من طور عابدين وعلى ضفاف نهر دجلة أفلح الآراميون بتأسيس دولة بيت زماني. وهي إحدى تلك الدويلات التي قامت في فترة انحطاط الدولة الآشورية في المنطقة الكائنة بين الفرات وينابيع نهر الخابور، في القسم الأعلى من دجلة، واتخذت آمد ( ديار بكر ) قاعدة لها. ومن أهم مدن هذه الدولة تيدو الواقعة بجوار مدينة ماردين.
أما عشيرة بخياني الآرامية فقد وصلت إلى جوار منابع الخابور، واتخذت من مدينة جوزن التي هي تل حلف جوار بلدة رأس العين عاصمة لها في القرن الثاني عشر ق.م وتقع جوزن ( تل حلف) شمال غرب الجزيرة السورية عند منابع نهر الخابور, ورغم أننا لا نستطيع تعيين حدود هذه الدولة، فمن المرجح أنها سيطرت على جزء كبير من حوض الخابور الأعلى، وجاورها من الشرق مملكة نصيبين ومن الغرب مملكة بيت عديني، حيث كان البليخ الحد الفاصل بين المملكتين.
ونستنتج أن التسلسل المفترض لحكام جوزن الأوائل هو كالتالي: بخياني و خدياني و كـَبـَارا وأبي سلامو وكلهم حكموا منذ القرن الحادي عشر وحتى مطلع القرن التاسع. ومن المرجح أن يكون شمش نوري هو ابن أبي سلامو، وهدد يسعي حفيده، الذي ضم إلى مملكته مدينتي سيكان ( تل الفخيرية ) التي تقع إلى الشرق من جوزن ( تل حلف ) حوالي 7كم، وأرزن. وقد حكم في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م. لكن كـَبـَارا بن قاديانو كان هو الأكثر شهرة بين ملكوها، والذي بنى في غوزانا قصراً ومعبداً. وهو زعيم إحدى القبائل الآرامية وإليه يعزى تأسيس المملكة وبناء هيكل تل حلف.
وبعد أن استقبل هدد نيراري الثاني الجزية من أبي سلامو أمير بيت بخياني ومن مدينة سيكاني، سار ملازماً مجرى الخابور حتى وصل مدينة قطيني، عقدة المواصلات الهامة في بلاد الجزيرة. وتقع قطيني بين تل عجاجة الذي كان اسمه القديم شادوكاني ثم تحول إلى عربان بعد الفتح العربي. ومنذ مطلع هذا القرن صار يُعرف باسم تل عجاجة على بعد 30كم جنوبي الحسكة، وبلدة الشدادي 54كم جنوبي الحسكة أيضاً. وكان يحكمها آنذاك الأمير إيلو هدد الذي رحب بنيراري الثاني، ودفع له جزية، كما دفعها فيما بعد لآشور ناصر بال الثاني.
ومن مدينة قطيني زحف الجيش الآشوري على بلاد لاقي، التي كانت تشمل الجزء الجنوبي من حوض الخابور وحوض الفرات، الممتد من بلاد سوحي في الشرق وبيت عديني في الغرب. وعاشت في هذه البلاد بضعة عشائر آرامية منها عشيرة حديفة التي كان أميرها برعتاره بن خالوفي أول من خضع للملك الآشوري، وقدم له الجزية عندما دخل عاصمته سورو (تل الصور) الحالي الذي يقع على بعد 40كم إلى الشمال من مصب الخابور في الفرات، وتبعت لها مدن كيبنا، صفرو، عقرباني.
وهناك إمارة خينداتو الواقعة إلى الشرق من لاقي، وسوخي إلى الجنوب من خينداتو وترقة حتى عانا، وكانت مدينة خانات ( عانا الحالية ) مركزاً أساسياً فيها ومن مدنها كئيلة، بيت شبايا، خرادا، تلبيش، وغيرها.
وبعد سورو وحديفة عاصمة بيت خالوفي دخل مدينة أوساله ودور كاتليمو آخر مدينة شمالية في بلاد لاقي وهي تل الشيخ حمد على الضفة اليسرى لنهر الخابور بين بلدتي الصور في الجنوب والشدادة في الشمال. وتمتد إمارة لاقي على ضفتي نهر الفرات جنوب شـرق ديـر الـزور حتى جنوب ماري، وكانت عـاصـمـتـها سـيـرقـو،وتبعت لها مدن كيبنا، صفرو، عقرباني. وهناك إمارة خينداتو الواقعة إلى الجنوب الشرقي من لاقي.
وتقع مملكة بيت عديني بين البليخ شرقاً وضفتي نهر الفرات الأوسط غرباً، وسيطرت على حوض الفرات الممتد من كركميش وبلاد لاقي. ووصلت حدودها الشرقية حتى نهر البليخ والغربية حتى بلدتي الباب و اخترين. وكانت عاصمتها مدينة تل بارسيب التي هي الآن تل أحمر على الضفة الشرقية لنهر الفرات 20كم جنوبي جرابلس، وشملت منطقة منبج وقسماً من الرقة ودير الزور، وكانت قائمة في القرن الحادي عشر ق.م.
وقد عرفت بيت عديني في العهد القديم بعدن أو بيت عدن ووردت هذه التسمية في المدونات الآشورية باسم بيت عدني. وتعتبر بيت عديني من الممالك الآرامية القوية بل أقوى مملكة في مجموعة الممالك الآرامية المنتشرة غرب الجزيرة السورية.
وليس هناك ما يشير إلى زمان تأسيسها بالضبط، إلا أنها كانت موجودة ولاشك في الربع الأول من القرن الحادي عشر ق.م بدليل أن بلكال الأول ملك آشور ( 1087 ـ 1070 ق.م ) شنَّ عليها عدة هجمات متتالية عنيفة.
ويتألف اسم مملكة بيت عديني من بيت مضافاً إليه عديني وهي من عدن، عدّان أي الوقت المحدد كفصل القيظ آو الخريف .. الخ.
وفي أكثر الوثائق الآشورية ذكر لمدن، لم تكن في رأينا، إلا منازل لأفخاذ من قبيلة بيت عديني، التي حكمها أميرها وعاونه شيوخ أفخاذها، ونقع على أسماء هذه المدن متقاربة أو متباعدة.
ففي المنطقة الممتدة إلى الشمال من جبل بشري كانت مديني دوميتي وعزمو (آزمو). أما في أقصى الشمال من بلاد الشام فكانت كبرابي أو كفر أبي، إلى الشمال الغربي أو الشمال الشرقي من تل بارسيب، وقد تكون بالقرب من أورفة أو إلى الغرب منها على ضفة الفرات اليسرى شمالي جرابلس، وبجوارها كانت على الأرجح مدينة بقرو خبوني أو فقرو خبوني. وفي نفس المنطقة إلى الشرق والشمال من كركميش ( جرابلس ) كانت مدن لالاتي و يورمران وبيت أصالي أو بيت الصلاّل إلى الشمال من أرسلان طاش.
هذا إلى الشرق من الفرات أما إلى الغرب منه فكانت سورونو (سارين) على الضفة اليسرى لنهر الساجور، إلى الشمال الشرقي من جازيان تبه حوالي 15 كم، وياريبا ( فاريفا ) وهي مجهولة. وتل باشيرا (تل بشير) إلى الشمال الشرقي من دابق التي كانت هي نفسها تابعة لبيت عديني وتقع إلى الشمال من اخترين في محافظة حلب.
وتذكر المصادر أن قبيلة آرامية استقرت في الرها (وهي أورفة حالياً) وأسست دويلة مهمة أول ملوكها آريو وهي كلمة سريانية تعني الأسد. واستمرت إلى عام 244م. واشتهرت الرها كمركز هام للكنيسة السريانية منذ فجر المسيحية وقاعدة للعلوم والأديان منذ القرن الثالث (62).
* جدول بالممالك والمدن والقبائل الآرامية في الجزيرة السورية:
1- بيت بخياني: موقعها بجوار منابع الخابور, ومن المرجح أنها سيطرت جزء كبير من حوض الخابور الأعلى وجاورها من الشرق مملكة (نصيبين) ومن الغرب مملكة (بيت عديني) حيث كان البليخ الحد بين المملكتين. واتخذت عاصمة لها مدينة (جوزن) التي هي تل حلف جوار بلدة رأس العين.
2ـ مدينة (سيكاني): وهي تل الفخيرية التي تقع شرقي مدينة جوزن (تل حلف).
3ـ مدينة (أزران): موقعها مجهول.
4ـ مدينة (قطيني): عقدة المواصلات الهامة في بلاد الجزيرة وتقع بين تل عجاجة وبلدة الشدادة.
5- أمارات بلاد لاقي:
بلاد لاقي تشمل الجزء الجنوبي من حوض الخابور وحوض الفرات الممتد بين بلاد سوحي في الشرق وبيت عديني في الغرب.
6ـ فيها عشيرة (حديفة): وعاصمتها (سورو): وهي (تل الصور) حالياً وتقع شمالي مصب الخابور بالفرات.
7ـ مدن كيبنا ، صفرو ، ، عقرباني.: تابعة لمملكة لاقي التي امتدت على ضفتي نهر الفرات جنوب شرق دير الزور حتى جنوب ماري.
8ـ إمارة سوخي جنوب خينداتو وشرق عانا.
9ـ خانات ( عانا الحالية ): مركز أساسي في سوخي.
10ـ مدن كئيلة، بيت شايا، تلبيش : من مدن إمارة سوخي.
11ـ إمارة خينداتو : جنوب شرق لاقي.
12ـ (ترقة): وهي بلدة العشارة الحالية الواقعة بين ماري ومصب الخابور بالفرات.
13ـ إمارة (خنداتو): تقع إلى الجنوب من ماري على حدود بلاد سوحي. وتقع فيها مدينتي: (ناجياته) و(عقربا)
14ـ مدينة (دركوري كالصو).
15ـ (عانة) أكبر مدن سوحي
16ـ مدن: (سويري) و(كاسي) و(أوساله) و(دور كتليمور) وهي آخر مدينة شمالية في بلاد لاقية، وتقع على الضفة اليسرى لنهر الخابور بين بلدتي الصور في الجنوب والشدادة في الشمال.
17ـ مدينتا (سوبري) و(عربانا): قد يكون موقعهما في منطقة (البوكمال).
18ـ بيت خالوفة: عاصمتها (سوري).
19ـ مدينة (شوفايا): لعلّها تقع بين قطيني ودور كتليمور( تل الشيخ حمد ).
20ـ مدينة (صويري) ومدينة (عقراباني): حيث تقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات بين العشارة وعانة.
21ـ بيت حشابايا المقابلة لمدينة (خاريدي): التي تقع بين عانة وخنداتو.
22ـ مدينة (سورد) في سوحي.
23ـ مدن (خنتي) و(إيلو) على ضفاف الفرات.
24ـ مدينة: (كيبنا).
25ـ بيت عديني: سيطرت هذه المملكة على حوض الفرات الممتد من جرجميش وبلاد لاقي, ووصلت حدودها الشرقية حتى نهر البليخ, والغربية حتى بلدتي الباب واخترين. وكانت عاصمتها مدينة (تل برسيب): وهي الآن تل أحمر على الضفة الشرقية لنهر الفرات 20 كم جنوبي جرابلس.
وقد انتشرت أفخاذ قبيلة بيت عديني في حوض الفرات من جبال بشري حتى ما دون جرابلس, التي وقعت بين جناحي بيت عديني: الغربي يتألف من حوض الساجور والنصف الشمالي من حوض قويق, والشرقي ويمتد إلى الشمال من الخط الواصل بين تل بارسيب على الفرات وتل أبيض على البليخ.
26ـ مدينة (بيترو): الواقعة عند مصب الساجور بالفرات إلى الجنوب من جرجميش.
27ـ مدينة (موتكينو): الواقعة على ضفة الفرات اليسرى.
28ـ مدينتي (دوميتي) و(عزمو = آزمو) تقع على امتداد جبل(بشري) إلى شماله.
29ـ مدينة (كبرابي) تقع في أقصى الشمال من بلاد الشام. وقد تكون بالقرب من أورفة أو إلى الغرب منها. وبجوارها كانت على الأرجح مدينة (بقرو خبوني).
30ـ مدن (لالاتي) و(يورمران) و(بيت أصالي) أو(بيت الصلاّل): تقع إلى الشرق والشمال من كركميش (جرابلس).
31ـ مدينة (سورونو): غرب الفرات على الضفة اليسرى لنهر الساجور, إلى الشمال الشرقي من جازيان تبه حوالي 15كم.
32ـ مدينة (ياريبا) أو(فاريفا): مجهولة
وهناك ثلاثة أقاليم قطنتها قبائل آرامية:
1ـ بلاد لاقي: الممتدة على ضفاف الخابور الأسفل من الشدادة حتى مصب الخابور بالفرات, وعلى ضفاف الفرات بين دير الزور والعشارة.
2- بلاد خنداتو: على ضفاف الفرات بين العشارة وبلدة العبيدي في العراق.
3- بلاد سوحي: الممتدة على ضفاف الفرات ومقرها عانة الحالية.
الحياة السياسية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
يستدل من الوثائق المكتوبة بالخط الآرامي والمكتشفة في دور كاتليمو في تل الشيخ حمد أن الآراميين تمتعوا بالحكم الذاتي وكتبوا وثائقهم بخطهم وبلغتهم. ونعرف من أخبار الآشوريين أن الحكام المحليين كانوا آراميين ولم يستبدلوا بآشوريين إلا في حال تمردهم وعصيانهم.
حيث كانت سيطرة الآشوريين على الممالك الآرامية في الجزيرة السورية اسمية، فالحكام آراميون ولا يرتبطون مع الآشوريين بمواثيق أو معاهدات تكفل خضوعهم لهم، ولكنهم يدفعون الجزية فقط، ويحترمون سلطة الملك الآشوري، ويعترفون بنفوذه.
من هنا نجد أن الآراميين في الجزيرة السورية اعتمدوا النظام الملكي في الحكم، لكن ليس بشكله الأوتوقراطي البغيض.
وكانت جميع القصور الملكية الآرامية تبنى بوجود تنظيم إداري متقدم من خلال قاعات الموظفين والكتبة والصكوك.
وعلاوة على ذلك نلاحظ أن اسم العاصمة غير اسم المملكة، وهذا ما كان مألوفاً عند الآراميين، واستثنائياً عند القبائل التي سبقتهم فالأكاديون نسبة إلى أكد العاصمة، والبابليون نسبة إلى بابل العاصمة، والآشوريون نسبة إلى آشور العاصمة .. الخ.
ولم تتح النزعة الفردية المتنامية وروح الاستقلالية الكبيرة، للآراميين إقامة كيان سياسي موحد في المنطقة. وهذه المسألة تكمن بالتركيبة الاجتماعية والبنية الثقافية التي حكمت هذه الممالك، وهي نتاج نمط معروف من العقلية التي ترى في القبلية والعشائرية والطبقية محور وجودها. فقد كان العصر الآرامي هو آخر عصر في سلسلة عصور ممالك القبائل، التي توالت على السلطة في بلاد الهلال الخصيب، منذ مطلع الألف الثالث، وحتى منتصف الألف الأول ق.م.
الحياة الاقتصادية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
أظهرت الوثائق التي عثر عليها، وجود نظام ضريبي متطور نسبياً في الممالك والإمارات والمدن الآرامية التي قامت في منطقة الجزيرة السورية. حيث كان يتم تسجيل واحتساب ما يملكه كل فرد من أفراد السكان في كل قرية أو مدينة بالتفصيل، من مزارع وبساتين وأراض زراعية وممتلكات. إلى جانب عدد أفراد أسرته. وذلك من أجل تحديد من يتوجب عليهم من السكان دفع الضرائب وقيمتها، أو الإعفاء من تلك الضرائب.
واشتهر الآراميون بالتجارة شهرة الآشوريين بالحروب والفتوحات، حتى أنهم بزوا الفينيقيين في التجارة البرية، وأصبحوا سادتها بلا منازع، كما كان الفينيقيون سادة التجارة البحرية. فقد احتكر الآراميون تجارة سورية الداخلية، باحتكارهم طرق المواصلات المؤدية إلى البلاد المتاخمة، حيث جابت قوافلهم التجارية بلدان الهلال الخصيب ووصلت حتى منابع الرافدين شمالاً وأفريقيا جنوباً.
والثابت أنهم كانوا يستغلون وسائل النقل المائية، فكانت الأموال المرسلة من الشمال تـُحمل على مراكب تمخر مياه دجلة والفرات، منها ما كان يشحن من غوزانا ـ تل حلف بالذات، وقد اكتشف باحث الآثار الألماني فون أبونهايم فرضة أي مرفأ نهرياً في غوزانا ـ تل حلف، ومنه كانت المراكب تنحدر في الخابور ثم في الفرات لتبلغ بلاد بابل.
كما أجاد الآراميون صناعة التحف العاجية وصياغة الحلي الذهبية والفضية والنحاسية، وصناعة الأسلحة والمركبات الحربية، وصناعة نسيج الأقمشة الحريرية المزركشة. فقد عثر في تل حلف على إناء برونزي منقوش من النوع المسمى الإناء الانسيابي.
وكان طريق نهر الفرات من أهم الطرق المائية، التي سارت فيها القوارب المحملة بكميات كبيرة من المعادن والسلع الغذائية، منذ أمد بعيد. أما نهاية الطريق النهري فربما كانت في مدينة سورو في أرض لاقي عند ملتقى الخابور مع الفرات، في المكان الذي استلم فيه توكولتي نينورتا الثاني 22تالنت من القصدير، وهو مكان الشحن على الفرات للبضائع التي كانت تجلبها القوافل التجارية من الغرب، وكذلك كان النقطة التي تذهب منها البضائع بالقوارب وبالطرق البرية باتجاه حران وجوزن.
تمتد جذور الإقطاع الزراعي بعيداً في أعماق التاريخ، وقد كانت في عصر الممالك الآرامية "1200ـ 530ق.م" مثل عصر الممالك الكنعانية السابقة لها، عبارة عن أنماط من حيازة الحقول لم تتغير في جوهرها، إنما نشطت الأسر في استثمار الأرض في هذا العصر، واختص الكثير منها بحقول، عمل بها أفرادها. كما إن الملك وحاشيته امتلكوا الحقول وأقتطعوها للمتنفذين.
واعتمد الآراميون في غذائهم بشكل متساو على الحبوب والخضروات والفاكهة. أبرز أنواع الحبوب التي بدا أنها كانت الأهم هي الشعير ثم القمح. حيث كان الشعير وسيلة الدفع (التسعير) في الحضارة الرافدية القديمة، قبل أن تصبح الفضة والذهب هي الوسيلة في وقت لاحق. وتوضح الحوليات الآشورية أحياناً أن زراعة الكرمة وزراعة الأشجار المثمرة، ترافقت مع زراعة الحبوب في المنطقة نفسها.
وكان الآراميون يتركون نصف الأرض الزراعية للراحة دون زراعة، من أجل المحافظة على خصوبة التربة وعدم إفقارها، عبر إتباع نظام متعاقب من الزراعة، والذي يعرف في أيامنا هذه بالدورة الزراعية.
وكان في المنطقة نوعان من الزراعة، الأول هو الزراعة البعلية التقليدية، والثاني الزراعة المروية، فمن جهة زراعة بعلية في الشريط الواقع شمالي معدل الهطولات المنطرية 200مم، ومن جهة أخرى نظام ري على وادي النهر الذي يعتمد على زراعة الحبوب إلى جانب الخضار.
وقد كان نظام ري الأراضي بوساطة الأقنية موجوداً في أغلب الأحواض المائية، كما أسهم نظام السقاية في بعض المناطق في تعديل الأساليب التقليدية التي كانت متبعة في بلاد آشور وشمالي بلاد الرافدين.
وتصف حوليات توكولتي نينورتا الثاني "890ـ 884 ق.م"، اقتصاداً مختلطاً من تربية المواشي والزراعة لدى سكان لاقي، عن طريق الذكر المتكرر لضرائب تتألف من الغنم والثيران. وتذكر أيضاً الحبوب والتين والجياد والبغال. ومن جوزن جاءت أيضاً لوحة منحوتة فيها تمثيل لجمل يمتطيه رجل يجلس على سرج يشيه الصندوق، يعود تاريخها للقرن التاسع ق.م. وذكر هدد نيراري الثاني أنه جلب من بيت عديني أنثى قرد كبيرة وأخرى صغيرة. وتلقى عدداً غير محدد من البط من بيت خالوفي على نهر الخابور. ووجد في شمأل دمية طينية تمثل الفيل وراكبه.
الحياة الثقافية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
يمكن القول أن الدور الآرامي الحضاري بدأ وتصاعد منذ الألف الثانية ق.م. وكانوا رسل المدنية والثقافة. فانتقلت معهم لغتهم الآرامية وغدت لغة الثقافة والدبلوماسية ولغة الجمهور وحلت مكان البابلية والكنعانية والآشورية، وعمَّ اللسان الآرامي الشرق حتى في آشور عاصمة الدولة الآشورية،
وكما انتقلت اللغة الكنعانية مع التجار الكنعانيين غرباً، فإن اللغة الآرامية انتشرت شرقاً مع القوافل التجارية الآرامية في أصقاع عديدة من الشرق الأدنى. فقد حصل الأرمن والفرس والهنود على أبجديتهم من مصادر آرامية، وحروف الفهلوية والسنسكريتية هي من أصل آرامي. وحمل الكهنة البوذيون من الهند الأبجدية السنسكريتية إلى قلب الصين وكوريا. وهكذا وصلت الحروف الفينيقية شرقاً بطريق الآرامية إلى الشرق الأقصى، وغرباً بطريق اليونانية إلى الأمريكتين مطوفة العالم كله.
من هنا نجد أن اتساع اللغة الآرامية كان أكبر بكثير من المجال الذي امتدت إليه الدول الآرامية، ونستطيع القول أن الوحدة القومية التي عجزت عن تحقيقها امبراطوريات آشور وبابل وصور وقرطاجة قد حققتها الثقافة واللغة الآرامية.
وبقيت الآرامية لغة الثقافة والتجارة والإدارة والفكر والأدب، عهوداً طويلة تقرب من ألفي عام، إلى أن أخذت تتراجع أمام اللغة العربية، التي حملت لواء الحضارة العربية المتجددة في القرن السابع ق.م. حيث تقلص دورها بالتدريج واقتصر أخيراً على التعليم الديني لمئات الآلاف من الناس في سورية والرافدين والجزيرة وإيران.
كما إن اللهجات الآرامية انقرضت ولم يبق منها سوى السريانية، حيث يتكلم فيها العرب السريان في الجزيرة السورية وحلب ومعلولا وبخعة وجبعدين في جبل القلمون.
ويحتل الفن في جوزن ( تل حلف )، مكان الصدارة بين مراكز الفن الآرامي ليس في الجزيرة السورية فحسب، وإنما في كافة المناطق الأخرى التي نشأت فيها ممالك وإمارات آرامية. ففي هذا المركز ظهر وترعرع الفن الآرامي قبل نشوئه وترعرعه في بلاد الشام.
وقد اهتم الملوك الآراميون في الجزيرة السورية بتحصينات المدن وبناء القصور الضخمة والواجهات الكبيرة كما عرف الآراميون النصب ذات الموضوعات الأدبية القصصية المتكاملة. كنصب تل العشارة.
هذا من حيث الموضوع، أما من حيث الأسلوب فنرى الفنان الآرامي في الجزيرة السورية، قد حافظ على الشكل التكعيبي للكتلة الحجرية،
الحياة العمرانية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
شكل البيت محور الحياة الأسرية في المجتمعات الآرامية في الجزيرة السورية. ولأن الآراميين كانوا بدواً قبل إنشاء ممالكهم، فقد كانت الخيمة هي البيت الأول الذي أقامه الآرامي في حله وحمله وترحاله في البادية.
ويعد الطين المادة الأساسية لبناء المسكن في أغلب مناطق المشرق العربي القديم. و كان هناك أكثر من شكل للبيت فهناك البيوت الطينية القببية، التي لازالت تستخدم في بعض مناطق سورية حتى الآن، وهناك بيوت ذات سقوف طينية مسطحة. وكانت البيوت متفاوتة الحجم والمساحة وعدد الحجرات، وذلك تبعاً لمالك البيت ووظيفته الاجتماعية والطبقة التي ينتمي إليها.
و بنى الآراميون مدنهم في مناطق مرتفعة محصنة بشكل طبيعي، وبأسوار منيعة، وفي هذه المدن أقاموا القصور والمعابد المسوّرة.
ونشا شكل المعبد الآرامي عن امتزاج تقليدين حضاريين عريقين في بلاد الشام أولهما المعبد الكنعاني/الأموري والثاني بيت عيلاني/حيلاني ( أي البيت العالي ) الآرامي. وعادة تبنى المعابد في العمارة الدينية لدى الآراميين فوق مصطبة مرتفعة تكسى واجهتها بالأحجار البازلتية المنحوتة على شكل سباع وأبي الهول الآرامي.
إذا كانت المعابد الآرامية قد نشأت من امتزاج أسلوبين بعضهما ببعض، فإن القصور الآرامية قد بنيت وفق مخطط البناء المعروف ببيت هيلاني/حيلاني أي البيت العالي. وهو اسم أطلقه الآشوريون على قصور بلاد ختي (الممالك الآرامية في شمالي بلاد الشام ) التي كانت متميزة عن قصورهم. والتي كانت متشابهة في الشكل العام، ومختلفة ببعض الجزئيات. والقصر الآرامي مقر الحاكم أيضاً ومسكنه، وهو صغير لأن المملكة الآرامية صغيرة، وحاكمها لا
يملك إلا عاصمته ومساحات صغيرة حولها.
الحياة الدينية في الممالك الآرامية في الجزيرة السورية
تبنى الآراميون بعد استيطانهم الهلال الخصيب، مختلف العقائد التي كانت سائدة فيه، وعبدوا كل الآلهة التي كانت معروفة آنذاك، وهي آلهة بلاد مابين النهرين وآلهة الكنعانيين والحثيين والحوريين.
حيث عبد الآراميون الآلهة العربية القديمة، ملقارت الفينيقي وآيل الكنعاني. ويأتي على رأس الآلهة الاله حدد ( أدد ) إله الزوابع والرعد والمطر، وهو نفسه بعل شمين سيد السموات. كما انتقل تأثير الديانة الآرامية إلى المصريين، و عبدت القبائل الآرامية في العراق الاله آنو، وهو أكبر الآلهة ومكانه في السماء ويسمو عن الادراك.
وأشهر الآلهة التي عبدها الآراميون هي : حدد، سين ، ركب ، إيل، بعل، شمين، ملقارت، شمش. بيد أن الإله الأوفر حظاً عندهم كان حدد الذي يمكن اعتباره زعيم آلهة الآراميين. ولهذا الإله زوجة تدعى أنارغاتس وهي الهة الخصب.
وأهم ما اعتقد به الآراميون، عودة الحياة إلى الإنسان بعد موته ومواصلته الحياة، ولكن بهيئة جديدة وبشكل آخر غامض.
ما هو مصير الآراميين في الجزيرة السورية
بعد هذا الاستعراض للآراميين الذين استوطنوا في منطقة الجزيرة السورية، من جميع النواحي، موطنهم الأصلي، ممالكهم، مدنهم، حياتهم بمختلف أطيافها سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً، عمرانياً، دينياً. يبرز أمامنا السؤال التالي: أين انتهى مصير هؤلاء الآراميين، ونقصد آراميي الجزيرة السورية. وهو سؤال مهم. فهل ذاب هؤلاء في الأقوام التي تلتهم، أم لا يزال هناك من يصح أن يقال عنهم أنهم منحدرون من أصل آرامي؟.
وجواباً على هذا السؤال نقول: السريان هم الآراميون بالذات، ويخطئ من يفصل أو يميز ما بين الآراميين والسريان كشعب، أو ما بين آرام وسورية كبلاد، أو ما بين الآرامية والسريانية كلغة. ويخطئ أكثر من يعتبر السريان فرعاً من آرام، والسريانية فرعاً من الآرامية.
فقد أخذت التسمية السريانية تحل محل الآرامية، أو تنوب عنها منذ ظهور المسيحية. وهكذا أصبح اسم السرياني يعني المسيحي، وليميز المسيحيين من بني جنسهم الآراميين الذين لم يكونوا بعد قد اعتنقوا المسيحية، لذلك أمست لفظة آرامي مرادفة للفظة الوثني، ولفظة السرياني مرادفة للفظة المسيحي.
لنعد ونطرح السؤال بشكل آخر، إذا كان الآراميون قد اتخذوا تسمية جديدة هي السريان في العهد المسيحي، ترى هل أن جميع الذين يعرفون اليوم باسم السريان، أو بعبارة أخرى الذين ينضوون تحت لواء الكنيسة السريانية بمختلف طوائفها هم أحفاد الآراميين القدماء؟.
ولأن ثمة عناصر غير آرامية دخلت الكنيسة المسيحية السريانية. فإننا لا نستطيع القول إن جميع الذين يسمون سرياناً هم آراميون أصلاً، ولكن في الوقت نفسه هنالك من لا يتكلمون اللغة السريانية ولا ينتسبون إلى أية طائفة أو كنيسة سريانية، لكنهم آراميون أصلاً كالصايئة مثلاً، الذين مازالوا يحتفظون باللغة الآرامية كلغة دينية طقسية رغم أنهم يتكلمون اللغة العربية.
وهكذا نجد أن كلمة السريان هي أكثر شمولية من كلمة الآراميين، لأنها تشمل كل الأقوام الذين آمنوا بالمسيحية على مذهب الكنيسة السريانية، في حين أن الآرامية لا تشمل سوى عنصر واحد فقط.
وهنا يبرز أمامنا السؤال التالي: هل ترى أن جميع سكان منطقة الجزيرة السورية من الآراميين اليوم هم آراميون أصلاً؟.
والجواب بالنفي طبعاً. ذلك بأن أقواماً عديدة سيطرت على المنطقة بعد الآراميين، وبانتهاء عهدها تخلف منها في البلاد فلول وجاليات، انصهرت فيما بعد في البوتقة العربية على اثر الفتح العربي الإسلامي. ولهذا فإن أبناءها يعدون اليوم عرباً وليس آراميين.
وبناء على ذلك نسال: هل نستطيع أن نسمي الآراميين عرباً؟ ولاسيما أنهم كانوا شعباً مستقلاً له كيانه وحضارته ولغته ونسبه وسيادته.
هناك شبه إجماع على إرجاع سكان المنطقة العربية منذ القديم، إلى أصل وأرومة واحدة، رغم تشكيلهم عدة شعوب ودول وممالك وإمبراطوريات، لذلك اصطلح على إطلاق تسمية واحدة لتلك الشعوب من آشورية وأكادية وعمورية وكنعانية وآرامية وحضر وأنباط اسم العرب القدماء، لأنهم يشكلون الأرومة الأساسية للشعب العربي الذي ورث تلك الحضارة وحمل ذلك الامتداد البشري والسياسي والحضاري. فأولئك هم السلف العرب القدماء ونحن العرب المعاصرون.
وعندما هلك آخر أقوام الآراميين وهي عاد وثمود، أصبح اسم الآراميين أرمان وهي آرام مضافاً إليها ان في النهاية، وهما حرف التعريف حسب الجنوب العربي، والأقوام البائدة هي عاد وثمود وطسم وجديس واميم والعمالقة. وأطلق عليها اسم العرب البائدة، كما كانت تحمل اسم العرب العاربة بمعنى الرساخة في العروبة كما يقول ابن خلدون. وهذا يعني أن الآراميين هم أصول العرب ف
مواضيع مماثلة
» أسئلة البكالوريا السورية 2008
» عولمة الحبّ بقلم الإعلاميّة السورية : ميساء سلوم
» الجزيرة تواصل سقطاتها ،، ولن تنقل لقاء الديربي .. ريال مدريد
» عولمة الحبّ بقلم الإعلاميّة السورية : ميساء سلوم
» الجزيرة تواصل سقطاتها ،، ولن تنقل لقاء الديربي .. ريال مدريد
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى